العربي الجديد وصل الحلم اللبناني "الافتراضي" إلى ذروته، بالفعل، في توحيد نشرات الأخبار السياسية من "أجل غزة"، مجسّدة التناقضات الأشدّ هولاً في حقّ بعضها البعض، مصطفة جنباً إلى جنب. كانوا كلّهم على المستوى نفسه من أجل عزّة: السارق والقاتل وأمير الحرب والملياردير والزعيم. الإمضاء: الفرادة اللبنانية. أصبح في وسعك أن ترسل جنودك إلى سورية، والتي قَتَلت فيها البراميل والمجاعة، حتى الآن، حوالي 2000 فلسطيني، وتقول إنك تفعل ذلك من أجل فلسطين. يمكن لك، أيضاً، أن ترفع شعار "مكافحة الإرهاب" على مذبح ما يسمى "الوحدة الوطنية" لتتحالف سياسياً في حكومة واحدة مع من كنت تعتبره "يجرّ لبنان إلى الويلات"، في قتاله في سورية، وتقول إنّك تفعل ذلك من أجل فلسطين. يمكن لك أن تكره الفلسطينيين من كلّ قلبك، وأن تتمنى لهم الإبادة الجماعية، في أحاديثك اليومية، بينما تشعر بالزهو حينما ترى "زعيمك المسيحي" يدبج قصائد الحب والثورة من أجل فلسطين. تطمئنّ: "زعيمي ذكي. يشتغل السياسة صح!". يمكن لك أن تتمنى اختفاء كلّ لاجئ سوري في لبنان من الوجود، وأن تهجس بمحو هذا "الفائض" البشري الذي "طعن المقاومة في الظهر"، ولم يقدّر "تضحيات المقاومة". وهناك يصبح في عينيك حينها أقل جدارة بالحياة من المستعمر الصهيوني لفلسطين، بينما تقول إنّ موقفك هذا نابع، تحديداً، من "التزامك بفلسطين". فعلاً، كم أصبح هنالك الكثير من "الملتزمين" بكِ يا فلسطين، على حين غرّة! لقد أشار حسن نصر الله إلى استعداد "المقاومة" لدعم غزة، بينما كانت جثث مقاتليه تأتي تباعاً من سورية. افترض اللبنانيون، يوماً، أن هؤلاء سيقاتلون "إسرائيل" فقط، بينما هم يموتون اليوم في جرود جبال القلمون. خبراتٌ عربية في القتال مع الصهاينة تذهب، وتقتل عرباً آخرين بمشيئة التصرف الإيراني المطلقة. هنالك، أيضاً، ميشال عون، في المضمار الذي يصرّ على تحقيق حلمه "العصاميّ"، كأيّ لبناني ماروني من الطبقة البورجوازية الصغيرة، بالوصول إلى "رئاسة الجمهورية"، تعلك شاشته الحبَّ لفلسطين، مستعملة تعابير شاشة غريمه التقليدي سمير جعجع. هذا اشتهر كثيراً بحبّه لفلسطين ولعروبة لبنان، إلى درجة أن الأمر كلّفنا بضعة مجازر في التاريخ القريب جداً، مجازر لم يعد من أصول العادات اللبنانية المستجدّة التكلّم عنها. التهذيب الفائق في مقاربة هذا الأمر الأخير تجده، هذه الأيام، خصوصاً عند تيار "المستقبل" الحليف لجعجع، والذي هيكلت سياسته النيوليبرالية الاقتصاد اللبناني، بعد انتهاء "الحرب الأهلية"، مما أدى إلى هجرة ملايين اللبنانيين الى الخارج. "المستقبل"، أيضاً، بثت شاشته قصائد الحب لفلسطين: لقد وحّدتْ، أخيراً، قصائد الحب لفلسطين بين حسن نصر الله وسعد الحريري، في هذا الظرف التاريخي الصعب "الذي نمرّ فيه"! يا لحظّنا التاريخي الهائل! أليست هذه هي الديموقراطية المتحققة في نهاية المطاف؟ أليس الأمر توفّر كل أنواع الخيارات للزبائن في السوبرماركت اللبناني، ولو كان كلٌّ منها يدمّر بدلاً ومجتمعاً عدة مرات متتالية؟ إنه الدليل الساطع على أنّ التجار اللبنانيين متساوون في البراعة. أساتذة في تقنيات التسويق: الدعاية المستمرة للبضاعة، تخفيض الأسعار عند اللزوم للتصريف المستمر، الحرص على عدم حدوث كساد، و"التميّز" بروح الريادة في الأعمال. أخذ "منطق السوق" الجميع في لبنان إلى جمهورية لبنانية "جديدة"، لم يعد فيها مواطن عربي ولبناني على الشاشات. لقد طُرد هذا المشرّد الفقير من مملكة الحيّز العام، ليحلّ مكانه "السنّي" أو "الشيعي" أو "المسيحيّ". لكن، لا بأس، فالعدوان الإسرائيلي على غزة وحّد مجدّداً بين "السنّة" و"الشيعة" و"المسيحيين". وللحقيقة، كان للفلسطينيين، دوماً، المكانة المقدّسة في السرد التاريخي اللبناني، وتبيّن مجدّداً أن الأمر ما زال على حاله. لقد عزا بعضهم إلى الثورة الفلسطينية، في سبعينيّات القرن الماضي، منع حلم لبنان "سويسرا الشرق" من التحقق، فما كان إلا لأحفاد الثوار شرف تحقيق "الوحدة الوطنية"، ولو افتراضيّاً، بين اللبنانيين، بجثثهم المتفحمة، مدة ساعة في نشرة أخبار. هكذا تكون دماء أطفال غزة التي تقتلهم الأباتشي الإسرائيلية صابوناً يغسل به بعضهم يديه من دماء أطفال سورية والعراق، مجرّد تفصيل صغير. تفصيل مزعج، بعض الشيء، للمستمع باستمرار للنشرة الموحّدة، لكنه لا يقترب من مقارعة صوت التلفاز والموسيقى التصويرية في الخلفيّة. إنّ جحيم غزة هو الجحيم "الجيّد" المسموح أن نغضب بشأنه، أما الجحيم السوري، أو العراقي، فهو جحيم "سيء"، لا يجوز حتى البكاء لأجله. كانت الحرب الإسرائيلية على غزة الفرصة الذهبيّة لتتويج الشطارة اللبنانية. قصائد الحب من أجل أطفال غزة تأتي من طبقةٍ حاكمةٍ على النمط النيوليبرالي، تمارس كوابيسها الساديّة على فلسطينيي المخيّمات في لبنان. إنّ "المجتمع الجديد" على شاشات "من أجل غزة" هو تجسيد لكانتونات نفسية عند اللبنانيين، تحققت بتحقق مصالح زعمائهم. أما مجتمع "تعدّد الطوائف الديموقراطي"، فقد صُدّرت لغته المذهبية إلى باقي الوطن العربي. وهذا، بالطبع، دليل آخر على ندرة الفرادة اللبنانية، وما يمكن لذلك أن يفعل "بحركة التاريخ" من حولنا. وحدهم الفقراء لا يظهرون معظم الوقت على الشاشات. هؤلاء يحوّلون إلى مقاتلين في مدينة طرابلس، ليُستعملوا ويموتوا للاشيء. الفقراء ملح الأرض العربية، ملح غزة وسورية والعراق والعالم، لكنهم، لأنهم كذلك، مجرد تفصيل "صغير" غير مرغوب به. في الحقيقة، لم تكن نشراتنا موحّدة، لا البارحة ولن تكون كذلك غداً. الليلة هو العرض الوحيد، فدعونا نشاهد نشرة الأخبار. هنالك صراخ أطفال ونساء وشيوخ يُقتَلون، آتية من خارج المنزل...يا للإزعاج! علِّ صوت التلفاز يا عزيزي. حسناً. لقد حلّت المشكلة.