المصري اليوم كانت أحداث الاتحادية برزخًا بين مرحلتين، مرحلة يُنظر فيها للدكتور محمد مرسي على أنه رئيس شرعي منتخب، ومرحلة يُنظر فيها إليه على أنه رئيس عصابة. لم يغير حديث الإخوان وقتها عن أن الضحايا في صفوفهم أكثر أي شيء، فالواقع أن ميليشيات مدنية تابعة للرئيس تحركت لمواجهة مدنيين آخرين يعتصمون أمام قصره، وأن أجهزة الدولة وقفت عاجزة لليلة كاملة أمام اشتباكات تدور على بعد أمتار من بوابات قصر الرئاسة، أما كون خسائر الإخوان أكثر فهذا لم يكن يعني سوى أن أعضاءها في حاجة لتدريبات إضافية على القتل استعدادًا للمواجهات القادمة. بعد الأحداث خرج فلول النظام السابق من جحورهم التي كانوا قد لجأوا إليها عقب هزيمة شفيق وسفره إلى الخارج، وعقب إحساسهم بأن الرئيس الجديد سيطر على الجيش بإقالة المشير طنطاوي وتعيين رجل تبدو عليه علامات التدين والاقتراب من فكر الإخوان، وسيطر على النيابة بتعيين نائب عام جديد، وسيطر على الشرطة فباتت تتصدى للمظاهرات بنفس طريقة عملها مع مبارك. تلقف الفلول وأجهزة الدولة العميقة العبارة التي قالها بعض الثوار والسياسيين المعارضين وقتها «مرسي انتهت شرعيته»، رأوا أن نزع الغطاء الثوري والشبابي عن مرسي حدث فعلا عقب أحداث الاتحادية، وأن نزع الغطاء الشعبي الجزئي عنه ممكن باختلاق أزمات في السولار والكهرباء والخدمات، ومن ثم فإن إسقاط نظامه في المتناول. فُتحت القنوات الفضائية على مصراعيها أمام الوجوه الثورية الموثوق فيها للحديث عن عيوب مرسي، الحقيقية بالمناسبة، وإظهار فشله في إدارة الدولة، وهو أمر واقع فعلا، وكشف مخططاته للسيطرة على مفاصل الدولة ونشر إخوانه في المواقع المهمة تمهيدا لسيطرة طويلة على الحكم، وهو ما كان يجري على قدم وساق حقًا. كان يجب أن نضع أمامنا أسماء مُلاك تلك القنوات ومعظمهم من كبار رجال أعمال الحزب الوطني والدائرين في فلكه، ثم نطرح سؤالا: لماذا يفردون للمحسوبين على الثورة كل هذه المساحة؟ هل آمنوا بالثورة فجأة وباتوا يتبنون خطابها ومطالبها؟ أم أن ما نقوله يصب في مصلحتهم وإن اختلفت الأهداف؟ ظني أنهم كانوا أذكى منا جميعًا، عرفوا أن بديل مرسي لن يكون وجها ثوريًا لأن مرسي محسوب على الثورة شئنا أم أبينا، فكانت الثورة تتشوه مع كل تشويه لمرسي، وكانت كراهية الناس للثورة تزداد طرديا مع كراهيتهم للإخوان، وأيقنوا أن خليفة مرسي شخصين لا ثالث لهما. أما أحد وجوه نظام مبارك أو أحد قيادات الجيش، ولأن رموز نظام مبارك فقدوا بريقهم أيضاً فكان الأقرب وجه جديد على السياسة يأتي من داخل المؤسسة العسكرية. هل كنا نعرف؟ كنا نعرف الخيارات لكن الخيار الذي بين أيدينا أيضا كان سيئا، فكما يتعامل الرؤساء العسكريون مع شعوبهم على أنهم جنود في كتيبة، تعامل مرسي مع الشعب على أنه أفراد في أسرة إخوانية هو رئيسها مطلوب منهم فقط السمع والطاعة، لم يفكر الرجل في تعيين مستشارين بدلا من الذين استقالوا من مؤسسة الرئاسة، تجاهل حتى اللحظات الأخيرة كل المطالبات بإقالة الحكومة أو تغيير النائب العام، أنجزت جماعته الدستور دون اعتبار لانسحاب كل القوى المدنية من الجمعية التأسيسية. سقط مرسي يوم 25 يناير 2012، عندما صنع شباب الإخوان دروعا بشرية أمام مجلس الشعب لمنع المتظاهرين من الوصول إليه وتسليمه قائمة بالمطالب، لم يكن مرسي قد تولى الرئاسة أصلا وقتها، لكن هذا اليوم شهد طلاقا بائنا بين شباب الثورة وشباب الجماعة، طلاق لم يؤثر فيه اتفاق «فيرمونت» بين الكبار ولا الاتفاق الضمني بين الشباب على انتخاب مرسي مكرهين تجنبا لفوز شفيق. سيقولون إن الحرية كانت مكفولة وإن الجميع كان بوسعه انتقاد مرسي وقت كان رئيسا بخلاف الآن، لكنهم يتناسون العشرات من دعاوى الحسبة التي رفعها مؤيدو مرسي ضد مقدمي البرامج والتحقيق مع الكثيرين منهم فعلا، بل والدعاوى التي رفعتها الرئاسة نفسها قبل أن تسحبها في وقت واحد، وينسون محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي وتعليق دُمى الإعلاميين المعارضين على المشانق، وينسون الهجوم على صحيفتي الوفد والوطن. كان بوسع الجميع انتقاد مرسي لأن وسائل الإعلام لم تكن خاضعة له أو بالأحرى معارضة له، ولأنه لم يكن قد أمسك بخيوط اللعبة بعد، كان مرسي ديكتاتورًا وفقا للإمكانيات المتاحة ولو ضمن الولاء الكامل للشرطة والجيش والقضاء كان سيتحول إلى ديكتاتور متكامل ومتعالٍ وربما دموي. نعم. الخيارات كانت معروفة للجميع، رئيس عسكري، أو فل رئيس، لكن ظني أن كثيرين اختاروا إقصاء مرسي الذي هو في الطريق إلى ديكتاتورية كاملة، واستبداله باحتمالات سيئة أخرى ربما ينجحون في التصدي لها، كان كثيرون يعتقدون أن تجربة الجيش في الحكم خلال العام ونصف السابقة لتولي مرسي ستجعله متخوفا من تكرارها وزاهدا فيها، حتى ولو أثبتت التجربة مجددًا فيما بعد أن الجيوش إذا نزلت حكمت. هل كان هناك بديل؟ أزمة الدعوة لمظاهرات 30 يونيو وجعلها الفرصة الأخيرة لإظهار قوة المعارضة في مصر، أنها جعلتنا أمام خيارين كلاهما أسوأ من الآخر، إما أن يفشل اليوم رغم الحشد الذي قامت به جبهة الإنقاذ وحركة تمرد وكل فصائل المعارضة وقطاع من فلول الحزب الوطني ومن ثم يتوحش الإخوان ويستهينون بمعارضيهم ويتكبرون ويتجبرون أكثر في الحكم، أو ينجح اليوم ومن ثم يأخذ الجيش الذي استدعته أكثر من مرة القوى الداعية للنزول بزمام المبادرة، وننتظر ما يخطط له وما يمكن أن يفعله. لو سألتني عن البديل وقتها كنت سأقول إنه لا بديل، لكن بعد أن أصبح المستقبل المجهول وقتها حاضرا معلوما الآن يمكنني القول إنه كان هناك أكثر من بديل لما جرى. كان يجب ألا نرهن مستقبل المعارضة على يوم، فإن رهناه على يوم لا نستدعي القوات المسلحة ونعلنه اعتصاما حتى يسقط النظام كما فعلنا مع مبارك، فإن استدعينا القوات المسلحة لا نترك السيسي يلقي الخطاب ونصمم على أن يلقيه شخص مدني، فإن ألقاه السيسي أعلنا فورا موعد الانتخابات الرئاسية المبكرة بدلا من ترك المجال له يُراكم النقاط ويثبت أركانه ثم يترشح للرئاسة في الوقت الذي يحدده هو. كان يجب أن نفعل لكننا لم نفعل. البدائل لم تكن تعطينا كل شيء وربما لا تعطينا مكاسب كبيرة، لكن أن تواجه رئيسا ديكتاتورا لا يسيطر على الإعلام ولا القضاء ولا ترتاح له أجهزة الدولة ولا تخضع له المؤسسات بشكل كامل أفضل من أن تواجه رئيسا يملك الأرض وما عليها وتدين له الدولة بأجهزتها بمؤسساتها بحكومتها بمعارضتها بالسمع والطاعة. كان يجب أن ننتبه ونحن نرى الفلول يتزعمون جمع استمارات تمرد. كان يجب أن ننتبه وكل إعلاميي مبارك يطالبون الناس بالنزول من أجل الدفاع عن الديمقراطية التي يهددها مرسي، وهم لم يُضبطوا متلبسين من قبل بالدعوة إلا خير. كان يجب أن ننتبه ونحن نرى أزمات الطاقة تزداد كلما اقترب 30 يونيو. كان يجب أن ننتبه ونحن نرى الأقسام تقفل أبوابها قبل 30 يونيو لأن الضباط يطالبون بزيادة المرتبات. كان يجب أن ننتبه ونحن نرى الشرطة تستقبل المتظاهرين بالورود، وهي التي إن لم تقمع ماتت. كان يجب أن ننتبه ونحن نرى بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يصدر في الأول من يوليو بينما النوافذ على الشاشة تكشف خلو الشوارع من المتظاهرين وكأنها دفع إلى استمرار المظاهرات لحين تحقيق الهدف. كان يجب أن ننتبه لكننا لم ننتبه. لذلك ولذلك كله فإن ما نحن فيه ليس سوء حظ ولا صدفة لكنه سوء تخطيط وتقدير. في المقال المقبل نتحدث عن «ما بعد الخديعة»