الرؤية الاماراتية ماتزال دول الربيع العربي تحاول اليوم الخروج من هذا المنعطف الضيق الذي تسير فيه، لكن وبرغم هذا الدمار الذي لحق بها كضريبة متوقعة لإعلان الاحتجاج والثورة سنتكلم عن الاستحقاق، هل يستحق العرب الديمقراطية التي ثاروا من أجلها وبذلوا فيها أقصى ما يملكون؟ أم أن الديمقراطية كانت شيئاً أكبر منا وربما كانت تصلح لشعوب أخرى أكثر تحضراً وتماسكاً؟ يمكن تفهُّم أن الثورات جعلت شيطان العنف يتحرر في النفوس وأن الأعصاب باتت عارية تماماً، إلى الحد الذي هبطت فيه قوة تحمل الإنسان لأخيه الإنسان حتى وصلت إلى الصفر، كما يمكن قبول علو نبرة الخذلان ممن قاموا بالثورات أنفسهم وطغيان الشعور بالعجز، علاوة على صدمة النتيجة التي لم يكن الخيال كافياً كي يسعف بها. لكن ما لا يمكن تفهمه حين تتواجه مع إنسان عربي عاش في الغرب كلاجئ سنوات طويلة بعد أن اضطرته ظروف العيش غير الآدمية إلى التخلي عن موطنه الأساس، واستمتع بمحاسن الديمقراطية التي حرم منها في بلاده، تراه في الوقت نفسه من أشد المدافعين عن الأنظمة الفاشية كما لا يؤيد استحقاق العرب للديمقراطية، ويعتبر أن ما حصل من ثورات لم يرق لمستوى الفعل السياسي الجماعي كما حصل في الثورة الفرنسية مثلاً. تلك أنانية فجة حين يرفض من عاش منهم بالغرب تطبيق ما يتمتع به من معطيات حياة تحترم الإنسان على غيره، ولا عجب أن قائد هذه المساعي التنظيرية من على بعد يعتبر نفسه صاحب نظرة استباقية للأمور على طريقة: «كنت أعلم أنكم لا تستحقون هذا بدليل النتائج الكارثية التي لم تلامس توقعاتكم»، ويسوق في ذلك حجة بلدية تحكي أن العرب بطبعهم أجلاف وفصائل قبلية، ونسيجهم الاجتماعي المضروب لا يتلاءم مع الوصفة الديمقراطية القابلة للتطبيق في الغرب. في الواقع، فليس كل من عاش في أمريكا وأوروبا قد أصبح غربياً من حيث الإيمان بالديمقراطية وحقوق الإنسان والاعتزاز بالنفس والدفاع عن الحقوق الآدمية الأساسية، لعله فات على هؤلاء أن الأوروبيين لم يخلقوا ديمقراطيين، لقد دفعوا ثمن ما وصلوا إليه من دمائهم وخصوصاً الفرنسيين. والديمقراطية ليست هي نظرية بقدر ما هي ممارسة وتطبيق وممكن تعلمها بالتجربة، الكرامة هي من دفعت بالشعوب العربية للثورات، وما يميز الإنسان عن الحيوان هو في أن احتياجاته الحقيقية تتعدى غرائزه، يحتاج إلى العدالة والكرامة والحرية والحقوق وكل هذه المعاني والقيم، ولا أظن أن الإنسان العربي بمعزل عن الاحتياجات الآدمية ككل، ولهذا استجمعت الشعوب العربية المنهكة إرادتها بعد طول صمت، فوضع الأنظمة لم يعد يعبر عنهم ولا يحتمل المزيد من الصبر، لكن مادام أولئك الشامتون لم يكتووا بنار هذه المآسي، ولا يتذوقون مشاكل العرب المزمنة، فسيستمرون في كيل مثل هذه التنظيرات الأنانية.