المدينة - السعودية "إننا بحاجة إلى أن نأخذ كثيرًا من الأمور بجدية أكثر، بدءًا من التعليم الابتدائي وامتدادًا إلى التعليم الجامعي، ثم انتهاءً بالتعليم المستمر الذي لا يتوقف عند درجة علمية محددة مهما علت" سأتحدث في عدد من مقالاتي التالية عن خلاصة بعض الأمور والتجارب القصيرة التي استثارت الكثير من تفكيري خلال فترة التحاقي -لن أقول بإحدى أشهر جامعات العالم- بل أشهرها على الإطلاق، وهي جامعة هارفارد الأمريكية. هذه الجامعة التي تأسست عام 1636م أي قبل حوالى 377 سنة، وحصد أعضاء هيئة تدريسها جائزة نوبل 21 مرة كأكثر جامعة تحقق هذا الرقم في العالم، يليها جامعة كولومبيا ب15 مرة، ثم معهد ماساشوستس للعلوم والتكنولوجيا ب12 مرة فقط، إضافة لكونها أكثر جامعة تخرج منها رؤساء للولايات المتحدةالأمريكية بواقع 8 رؤساء، منهم الرئيس الحالي باراك أوباما. ليس كافيا أبدًا أن تقرأ عن تاريخ وعراقة هذه الجامعة لكي تتعرف على حقيقة تفردها وتميزها وعظمتها العلمية، ولكنك بحاجة إلى أن تدخل فعليًا إلى حرمها ومكتباتها وقاعاتها ومراكز أبحاثها.. تحتاج أن تتعامل مع جهازها الإداري.. أن تجلس كطالب في فصولها الدراسية وتستمع الى أعضاء هيئة تدريسها وتحتضن مناهجها التعليمية ومقرراتها الدراسية. هناك الكثير جدًا مما يمكن أن يقال عن هارفارد، لكني سأكتفي في مقالي هذا والمقالات التالية له بلمس وتحسس بعض القضايا التي كما قلت سابقًا استثارت تفكيري خلال تجربتي التعليمية هذه بدءًا من سبب تقديمي وحضوري للجامعة وانتهاءً بربطي المتواصل -بقصد أو لا شعوريا- للحالات الدراسية case studies ونقاشها خلال المحاضرات وذلك بالأوضاع المشابهة لها في المملكة بهدف الاستفادة من تلك التجارب قدر الإمكان. لماذا هارفارد.. هل يستحق الأمر تكلفة البرنامج الدراسي الباهظة.. هل هي رحلة علمية أم ترفيه وتغيير جو؟ هذه الأسئلة سمعتها كثيرًا من العديد من معارفي وزملائي في المملكة، ولم أتفاجأ بها لأني أعرف يقينا أن من الشائع جدًا لدينا أن نسجل في البرامج والدورات والمؤتمرات المتخصصة ونسافر إليها فقط بقصد الترفيه أو الانتداب أو لمجرد الحصول على شهادة حضور، بل إن بعضنا يكتفي بحضور اليوم الأول من تلك الفعاليات ويختفي بعد ذلك. قناعتي الراسخة بأهمية التدريب والتعليم المستمر الذي لا يرتبط بعمر أو مستوى وظيفي محدد يجعلني دائم الحرص على تلقي جرعات تعليمية وتدريبية متواصلة.. ولم أجد أفضل من هذا البرنامج المتخصص في تطوير القيادات الحكومية وإدارة التغيير والأزمات.. برنامج هو الأفضل عالميًا، في جامعة هارفارد وهي الأشهر بلا منافس، وكلية كينيدي للإدارة الحكومية الرائدة في هذا المجال بلا جدال.. وكما يقول المثل: إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ.. فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ. وبمناسبة الحديث عن هذا الشأن فقد كتبت تغريدة على صفحتي في تويتر ذكرت فيها عزمي على السفر للدراسة، فرد عليّ أحد طلابي السابقين في الجامعة قائلا لي: "أتمنى أن يعذبك أساتذتك هناك كما عذبتنا هنا"، ملمحًا إلى كثرة التكاليف التي أفرضها على طلابي وإلزامي لهم بالمشاركة في النقاشات واحترام الوقت والمواعيد وعدم الغياب.. وأجدني اليوم ابتسم لرده على تغريدتي تلك حينما أقارن كل ذلك بما هو مطلوب مني حاليًا كطالب في هارفارد من تكاليف يومية مكثفة وصرامة في المواعيد وحتمية للمشاركة في النقاشات ومجموعات العمل توازي أضعاف ما أطلبه من طلابي.. ولذلك الطالب أقول إن الله قد استجاب دعاءه، فمحاضراتي هنا تبدأ يوميا الساعة 8 صباحا وتنتهي بين الثالثة والنصف والسابعة والنصف مساءً، أبدأ بعدها فورًا التحضير لتكاليف اليوم التالي بشكل متواصل حتى موعد الخلود للنوم ثم الاستيقاظ مبكرًا الساعة الخامسة صباحًا لإكمال ذلك قبل بدء اليوم الدراسي. أتعجب هل يقوى طلابنا على مثل هذا القدر من التكاليف والصرامة الدراسية؟ وإجابتي من واقع تجربتي كأستاذ جامعي هي قطعا لا.. هل يمكن أن يحضر أستاذ بجامعاتنا لمحاضراته دون أن يكون أكثر من 20% أو حتى 25% من طلابه غائبين؟ هل استلم أحدهم التكاليف من طلابه جميعهم في الموعد المحدد دون تأخير وأعذار ممجوجة؟ لنكن صريحين فطلابنا بجميع مراحلهم التعليمية جبلوا على عدم الجدية وعلى الاستهتار وعدم الالتزام بالمواعيد والانتظام في الحضور.. ولكي نكون صريحين أيضا فإن المسؤول عن ذلك هو تهاوننا وقبولنا كمسؤولين وأساتذة لهذه الأوضاع وعدم كوننا قدوة لمن نعلم (أو ندير)، وهذا ما يخلق لنا في النهاية جيلا من المخرجات التعليمية (أو الوظيفية) غير المؤهلة وغير المنضبطة نراها ونعاني منها أينما ذهبنا. خلاصة القول: إننا بحاجة إلى أن نأخذ كثيرًا من الأمور بجدية أكثر، بدءًا من التعليم الابتدائي وامتدادًا إلى التعليم الجامعي، ثم انتهاءً بالتعليم المستمر الذي لا يتوقف عند درجة علمية محددة مهما علت.