أصبح الخطاب الديني يواجه منذ سنوات ردود الأفعال الشعبية مباشرة على كل كلمة يقولها، وفتوى يدونها واحتساب يقوم به، وأخذ يخسر كثيرا من سلطته الرمزية مع تمدد الفضاء الالكتروني. بدأت السلطة الدينية في عالمنا العربي تفقد السيطرة على الوعي العام، والقدرة على توجيهه وفق قوالب وآراء محددة، كما خسرت السلطة السياسية قبلها هذه القدرة على تنميط الوعي والتحكم بكل ما تستقبله الشعوب. مرت سنوات طويلة على حضور الأدوات الإعلامية التقليدية من مطبوعات ومطويات وكاسيت وبرامج.. كان فيها الواعظ والداعية لا يعلم كيف استقبلت رسالته، وما هي مشاعر العامة وردة فعلهم. كان الكاسيت يمر على المستمع دون قدرة على التعليق على محتواه أو الاعتراض على جملة فيه، وكانت الفتوى والمطوية الورقية تمر على الملايين دون أن ترافقها ردة الفعل الشعبية. منذ عقد ونصف لم تستوعب كثير من النخب الدينية والمشتغلين بالدعوة والاحتساب نوعية المتغير الجديد، وأن المستقبل للرسالة أصبح يملك ما يملكه المرسل من أدوات التأثير، ويستطيع بتعليق واحد التشويش على خطابه، وتقديم رسالة معاكسة لخطابه وقد تتفوق عليه، ولم يتنبه المحتسب للأضرار التي قد يتسبب بها في خلق فجوة بين الإنسان العادي وحقيقة التدين وأصول الإسلام ومفاهيمه. مشكلة ردود الأفعال الآن أنها لم تعد مجرد تعليقات عابرة لفئة تؤيد بقولها "جزاك الله خيرا" "والله يقويكم.." وأخرى تعارض وتنتقد وتسخر. اليوم، بشيء من التأمل، هو: خطاب آخر مضاد، يأتي عبر التعليقات الساخرة، والآراء المتنوعة.. بدرجة اعتراضها، ففي اللحظة التي يتوهم الواعظ والمحتسب أنه يحافظ على سنة أو يدافع عن رؤية فقهية مختلف عليها.. قد يكون سببا دون أن يشعر بهدم ما هو أهم ويفتن آخرين، ويتجرأ سفهاء على أحكام كبرى في الشريعة، بسبب تصورات غير ناضجة لمفهوم إبراء الذمة وحقيقتها. مع مرحلة الإعلام الجديد تشكلت ظروف مختلفة، وأصبحت ردود الفعل أكثر تلقائية وسرعة وإرباكا، وتحولت الأساليب التقليدية في الإنكار والاحتساب عرضة للسخرية والتندر، ونظرا لتزايد ظهور أسماء تمارس هذا الاحتساب الالكتروني، وهي لا تملك الوعي الضروري لهذه المهمة، لم يعد يستطيع البعض التمييز بين الحسابات الحقيقية.. والحسابات الساخرة من الاحتساب، التي تتقمص دورها، وتحولت كثير من الهاشتقات الاحتسابية حول بعض القضايا والأحداث إلى حفلة سخرية وتندر. في القرن الماضي كانت الأنظمة الناشئة أول من استفاد من الإعلام التقليدي للسيطرة وإحكام القبضة على الرأي العام، وكان التيار الديني آخر من استفاد من هذه الوسائل، وكان التيار السلفي آخر التيارات الإسلامية الذي تقبلها بعد مقاومة طويلة لأسباب فقهية تبدو اليوم شيئا من الماضي، وكانت مشكلة الصورة والموسيقى فقهيا أحد أسبابها. عندما جاءت مرحلة الانترنت كان التيار الديني من أوائل من بادر باستعمالها، ولم ينشغل كثيرا بحكم استعمالها فقهيا. حقق حضوره توسعا عندما كان شكل الانترنت في البدايات بدائيا.. قريبا من شكل الإعلام التقليدي، ولا يتطلب تغييرا حقيقيا في الخطاب والوعي.. وتوهم كثير من النخب الدينية أن الأمر مجرد تحول من وسيلة إرسال إلى أخرى، فلم تعيد ترتيب أولياتها الفقهية، لبناء خطاب آخر لهذه المرحلة. بعد مرور عقد ونصف ومع نضج كفاءة الانترنت وتنوع خياراتها وتطور أدوات الاتصال مؤخرا، فقد بدأت تظهر كثير من الأخطاء وضعف الوعي الديني بهذه المتغيرات، وأصبحت مواقع التواصل واليوتيوب مصيدة لكل خطاب ومحاضرة وموعظة تفتقد للنضج بطبيعة العصر.. وبعضها ترجم إلى لغات أجنبية للسخرية منها. الحديث هنا ليس عن الخطاب الإسلامي الذي يهتم بالدعوة والتوعية بأصول الإسلام والحث على الصلاة والعبادات والمواعظ الإيمانية وتجنب المنكرات.. فهذه الأعمال لا تستقبل بالسخرية وليست هي المقصودة، وإنما المشكلة تظهر في الخطاب الاحتسابي حول القضايا الاجتماعية والسياسية والحريات الشخصية وقضايا المرأة، فهذا الخطاب يفتقد للحس بالبعد الاجتماعي والتاريخي، ولا تجد له أثرا في صياغة الفتوى والرؤية الفقهية. وقد أصبح الضرر في حالات عديدة من بعض الممارسات الاحتسابية الالكترونية على الإسلام أكبر من المصلحة، ويغالط من يريد أن يختصر المشكلة بوجود فئة شريرة في هذه القناة أو هذا الموقع.. وأسماء معدودة حول كاتب هنا ومسؤول هناك. المتغيرات في حقيقتها تحولات تاريخية كبرى في بنية الوعي والمجتمع تفرض على الجميع بناء خطاب آخر لعصر لم يعد فيه فرق بين المستقبل والمرسل وبين هنا وهناك.