الحياة - السعودية نازلاً من وقف الملك عبدالعزيز المقابل للحرم المكي ومتجهاً لأداء صلاة المغرب أشق دربي بصعوبة، انتظمت الصفوف في المساحة الفاصلة بين الوقف والحرم. بل داخل بهو المول التجاري الذي يشغل الأدوار الأربعة السفلية من الوقف، استعداداً للصلاة أعمال التوسعة التي أدت إلى إغلاق أكثر من نصف المسجد فتركزت الحشود البشرية في الجهتين الجنوبية والغربية منه. الجسر الحديد المحيط بالكعبة ومناظر الهدم والبناء من جهة الشامية والجدران الممتدة داخل الحرم لإخفاء أشغال التوسعة ألقت جميعها بروح شديدة العملية على صحن الحرم ففَقَدَ الكثير من روحانيته. في المقابل لا تزال الساحات الخارجية - بما توفره من تموضع إزاء أسوار الحرم المهيبة وأبوابه العظيمة ومآذنه الطوال - قادرةً على إمداد الأرواح العطشى بالنفح الروحاني المشتهى. نازلاً من وقف الملك عبدالعزيز أرمق الحشود التي تفصلني عن الحرم وتعوق وصولي إليه. عن يميني صفوف الرجال وصفوف النساء عن يساري، وبينهما ممر عرضه عند البداية نحو ثلاثة أمتار، لكنه يضيق شيئاً فشيئاً. صدح المؤذن بالإقامة فنهض الجالسون وتجمد المشاة في أماكنهم، استعداداً لتكبيرة الإحرام. ملأ المشاة الممر فتقلصت الفجوة بين صفوف الرجال والنساء، إلى درجة أنها جُسرت تماماً في الصفوف الأمامية. يتلو سعود الشريم سورة التكوير فيما المصلون وقوفاً أمام الأسوار الرصاصية الصلدة والأبواب النحاسية الثقيلة والمآذن المنتصبة في سماء ترعى في زرقتها الغيوم وتنحو شمسها للمغيب. بدت الأسوار والأبواب والمآذن كحرس مهيب للكعبة والمطاف والمقام والحجر والملتزم. يا الله، لم أعرف من قبلُ أن للفضاء المحيط بالحرم كل هذه الروحانية الطاغية. صفوف النساء والرجال تتجاور، والوجد الإلهي يُلهي هؤلاء عن الناس عن المعاني الشهوانية للاختلافات النوعية بينهم. هنا كعبة الله.. هنا الخلق عيال الله. أطفال الرحمة الإلهية لم ينظّموا أنفسهم على أساس أن ذكور هذا المكان ذئاب وإناثه نعاج، فلا حواجز، لا جدران، ولا مؤسسات رسمية لرعاية الفصل والتأكد من تطبيقه. لا توتر ولا استدخالَ للنظرة التي ترى أن البشر مجبولون على الشر، بعضهم على بعض خطر. في اليوم نفسه الذي وصلتُ فيه إلى مكة قرأت في الصحف أن وزارة التربية والتعليم ألزمت «جميع المدارس الأهلية والأجنبية بإزالة الأبواب الفاصلة بين أقسام الطلاب والطالبات في المدارس، وإنشاء حائط جداري «أسمنتي» بدلاً عن الأبواب، مؤكدة أن الفصل التام شرط لتجديد ترخيص المدرسة»! اليوم، قرأت أن طبيبة في الخدمات الطبية في شطر الطالبات في جامعة الإمام رفضت نقل طالبة حبلى جاءها المخاض في «الحرم الجامعي» بالإسعاف بحجة عدم حضور ولي أمرها، الذي لن يجيء لوجوده في الدمام على بعد 400 كلم! يأتي كل ذلك بعد أيام من وفاة طالبة في جامعة الملك سعود، قيل إن دخول رجال الإنقاذ تأخر لنقلها إلى المستشفى بسبب خوف الأمن من كسر «تابو» الاختلاط هذا. المؤسسات التعليمية أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية في المجتمعات المعاصرة والجامعات أهم رافعات التقدم والتنوير في المجتمع. لماذا من بين كل مجتمعات الأرض قررنا أن نسخّر مؤسساتنا التعليمية لترسيخ فكرة الفصل بين الجنسين، حتى لو على حساب سلامة الطلاب التي عادةً يكنّ إناثاً؟ بل لماذا ترعى مؤسسات رسمية متعددة ومتداخلة فكرة الفصل هذه وتسهر على تطبيقها؟ هل نعي الثمن الأخلاقي الباهظ لهذه الفكرة التي ننفرد بها من دون مجتمعات العالم قاطبة؟ لنتأمل تنظيمنا الاجتماعي الشديد الاصطناع لمسألة الفصل بين الجنسين. ربما لن يعرف القارئ هول ما نحن فيه حتى أذكّره بالصداع الذي سببه المحتسبون لرأس وزير العمل السابق غازي القصيبي، رحمه الله - جراء عزمه تأنيث محال بيع المستلزمات النسائية، في حين أن أكثر قوى الأرض ظلامية وتطرفاً ووحشيةً، أي دولة البغدادي المسماة «داعش»، تسمح بهذا الأمر، وهو ما دعا خلف الحربي إلى التعليق قائلاً: «إما أن هؤلاء المحتسبين أكثر تخلفاً وظلاميةً من مقاتلي داعش أو أن داعش ليبرالية ونحن لا نعلم». بل ويا لحرة كبدي، قرأت في «تويتر» اقتراحات من أنصار «داعش» لتنظيم المجتمعات التي تسيطر عليها تحذّرها من تكرار تجربة السعودية في الفصل بين الجنسين. الله أكبر! وصلنا إلى واقع أن أنصار «داعش» وظلامييها يسْخَرون من تطرفنا. إن كان الاختلاط «تابو» لبعض الفئات الاجتماعية المتطرفة لدينا، كحال الذي أفصح عن أنه لزم «الملتزم» شهراً يدعو الله على غازي القصيبي أن يصيبه بالسرطان جراء خططه لفتح مجالات عمل جديدة للمرأة، فكيف يمكن فهم حرص المؤسسات التعليمية والجامعات على صيانة هذا الفصل بأثمان عالية قد تحط من سمعة هذه المؤسسات، على رغم أن أكثر التنظيمات تطرفاً أقل اكتراثاً بهذا الأمر منّا؟ لن أتجنى. ربما أن مسؤولي المؤسسات التعليمية الحكومية، وبناءً على تجارب سابقة كتلك التي حصلت لوزير التربية السابق محمد الرشيد رحمه الله، لا يرضون لأنفسهم ولا لمؤسساتهم أن يكونوا مجالاً للتحريض عليهم من على المنابر. الأمر - بلا شك - مخيف. لكن مسؤولية الأرواح أكبر. في الساحة بين الوقف والحرم تجاورت صفوف النساء والرجال يستمعون خاشعين للشريم وهو يتلو آيات من سورة التكوير. إنه حرم الله المتمنّع على الفضائل المتصنعة. لو أن امرأة حبلى جاءها المخاض في هذا المكان فسيُطلب لها الإسعاف وسيخترق المسعفون الرجال صفوف النساء لنقل المريضة إلى المستشفى.