المصري اليوم - السعودية في مقهى بلدي فقير يجلس فريد شوقي ومحمود المليجي يمارسان هوايتهما في «التلقيح» على بعضهما البعض، وبعد مناوشات لفظية عديدة يأتي دور الأيدي لتتحدث، فيقذف أحدهما الكرسي في وجه الآخر ويتحول المقهى إلى ساحة عراك، ويبدأ من كانوا على «ترابيزة» واحدة في توجيه اللكمات لبعضهم. يظهر فريد شوقي في المشهد التالي مع زوجته وأولاده، وفي لقطة أخرى محمود المليجي في السوق وسط صبيانه، بينما الذين أوسعوا بعضهم ضربًا في مشهد القهوة لا يظهرون بعدها على الشاشة إلا إذا تطلبت الحبكة الدرامية خناقة جديدة، وفي لحظة ما سيتوقف من تبقى من هؤلاء ليسألوا أنفسهم ويسألوا بعضهم: «هو احنا كنا بنضرب بعض ليه؟». لفترة طويلة كنت أتصور هذا المشهد مبالغة غير منطقية وعبثا تفرضه رؤية المخرج، حتى اتضح لي مؤخرًا أن هذه المشاجرة التي تكررت في عشرات الأفلام إنما كانت ناتجة عن فهم للواقع واستشراف للمستقبل الذي كانوا يرونه قبل عدة عقود، والذي نعيشه بكل تفاصيله الآن. طرفان يخوضان معركتهما الشخصية، أحدهما يوهم بعض زبائن المقهى بأنها حرب من أجل الوطن فيحارب معه، والآخر يقنع بعض الزبائن بأنه قتال من أجل الدين فيتلقى الضربات عنه، حتى الزبائن الذين لم يقتنعوا بكلام هذا ولا بادعاءات ذاك تطالهم لكمة طائشة من هنا وكرسي طائر من هناك. يتحول رفاق الترابيزة الواحدة إلى أعداء، يتناثر الدم في المكان، يتحول المقهى إلى حطام، يحصل «فريد» وحده على الغنائم، وينتظر «المليجي» معركة أخرى يعوض فيها خسائره، ويدفع المقهى وزبائنه في كل مرة ثمن مغامراتهما. نخوض معركة «إجبارية» لسنا من أطرافها ونختلف مع وسائلها، ولن نأخذ شيئا من مكاسبها وربما يموت بعضنا فيها دون أن يصل لإجابة عن سؤال: «في سبيل من كنا نحارب؟». *** لا يوجد في المقهى إلا فريد شوقي ومحمود المليجي وعشرات الكومبارس، ورغم ذلك يجلس محلل في شرفة المقهى متسائلا: لماذا لا نبحث عن البديل؟. البديل يا سيدي مشغول بمتابعة المعركة بين «فريد والمليجي». لا يسعى أحد لدخول المشهد بل ينتظر خروج أحد المتصارعين خاسرًا ليحل محله، يعجز عن مواجهة أيهما فيدعم أحدهما ليقضي على الآخر، لا يملك رؤية حقيقية للإصلاح فينشغل بتفسير رؤية رآها غيره في المنام. عبر 30 عامًا لم ينجح نظام مبارك سوى في تخويف المصريين وتجريف الساحة من المنافسين. شعب متأكد من أن الغرب يتآمر عليه، والعملاء يملأون أرضه، يرى إسرائيل على حدوده، والتقسيم في جنوبه، والحرب الأهلية عن شماله، ومياهه تتناقص، وأكباده تتآكل، والتجار ينهشون لحمه، يشعر أن الإرهاب يتربص به من كل جانب، والمصائب تتدفق عليه من كل حدب وصوب. ينظر حوله فيجد سياسيين منقسمين، وإسلاميين متهمين بالإرهاب، وليبراليين مطعونين في دينهم وأخلاقهم، ويساريين غارقين في الماضي، وناصريين يختصرون السياسة في اجتهاد شخص، ومستقلين مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن بعيد تظهر بيادة راسخة في الأرض وكاب يعانق السماء وبينهما بدلة مهندمة تملؤها النياشين، لا يتورط صاحبها في أي من الصفات السابقة، أو قل إنه يحيط نفسه بساتر فولاذي لا يُظهر عيوبه للملأ. هنا تصبح البدلة الميرية العتيقة حلا آمنا لشعب خائف ولا يجد البديل. نلوم من يرى في الحكم العسكري حلًا، لكننا نلوم وبعبارات أشد من جعله يكفر بالحكم المدني. *** خاضت «الإخوان» معركتها مع الدولة باسم الدين؛ فأصبح كل متدين عرضة للاعتقال، وخاضت الدولة معركتها مع الإخوان باسم الوطنية فصار كل جندي عرضة للاغتيال، فنحن أصحاب قدرة فذة على تشويه كل ما ندافع عنه وتلميع كل ما نهاجمه، نعطي خصومنا تعاطفًا لا يستحقونه، ونخصم من قضيتنا رصيدًا تستحقه. ربما تكون الحرب الإعلامية والنفسية التي تشنها الدولة على «الإخوان» وحلفائهم ناجحة شعبيًا في تعبئة الناس ضدهم، لكنها تعطي المنتسبين إليها، وهم بعشرات الآلاف، مبررًا أكبر للتماسك ودوافع أكثر للانتقام. وربما تكون الحرب العقائدية التي يشنها الإخوان على مخالفيهم ناجحة في منح الجماعة دوافع أخرى للبقاء، لكنها تعطي هؤلاء المخالفين حيثيات إضافية للكراهية ورغبة مضاعفة في التشفي. لا يكسب الفريقان مؤيدين جددا ولا يخسرون كثيرا من الأنصار، لذلك لن ينتهي أحدهما في القريب، ومن ثم لن تنتهي المعركة إلا بتقسيم الوطن أو باقتناع الطرفين بأن أحدهما لن يختفي من الوجود، أيهما أقرب. *** إقلع غماك يا تور وارفض تلف إكسر تروس الساقية واشتم وتف قال: بس خطوة كمان.. وخطوة كمان يا اوصل نهاية السكة يا البير تجف وعجبي!