الوطن- القاهرة كثيراً ما كنت أعرب عن تبرُّمى من بعض الأوضاع التى تسود الجامعة للرجل الذى تتلمذت على يديه: الراحل الكريم الدكتور «خليل صابات»، وكان كلما فعلت يرد علىّ قائلاً: «ومن قال لك إننا نعمل داخل جامعة حقيقية.. إحنا بنمثل جامعة»، يعنى هناك شاب وفتاة يمثلان دور الطالب والطالبة، ورجل وامرأة يلعبان دور الأستاذ والأستاذة، ورجال ونساء آخرون يمثلون دور العمال والموظفين، لكن لا الطالب طالب حقيقى، ولا الأستاذ أستاذ حقيقى، ولا الموظف موظف حقيقى، فالكل يمثل دوراً على خشبة مسرح كبير اسمه «الجامعة». هذه الفكرة اللامعة يمكن أن تعيننا على فهم أسلوب إدارة الكثير من القضايا والأحداث والملفات التى تتزاحم بها حياتنا. مثلاً محاكمة المتهمين بقتل ثوار يناير، وعلى رأسهم حسنى مبارك وحبيب العادلى. هل ترى أنها تختلف كثيراً عن مسرحية «دورينمات» المعنونة ب«القتل الأبيض»؟ فى هذه المسرحية يمثل شخص دور المتهم، وآخر دور وكيل النيابة أو الادعاء، وثالث دور المحامى، ورابع دور القاضى، وتبدأ المسرحية، ويحاول كل ممثل الإجادة فى تمثيل دوره حتى يفوز فى اللعبة. مثلاً محاكمات قتلة ثوار يناير تنتهى دائماً بفوز المتهمين! فتّش عن التمثيل ستجده قابعاً فى كل ناحية من نواحى حياتنا، بما فيها النواحى الأكثر قداسة. «التدين» المصرى لا يفلت فى بعض الأحوال من آفة التمثيل. فما معنى أن يكذب أو ينافق أو يدلس أو يسرق أو يقتل أو يخرب من تطول لحيته، إلا أن يكون إنساناً مفتوناً بالتمثيل من أجل خداع البشر! «ألا يعلم بأن الله يرى».. حتى الوطنية والحديث عن محبة الوطن أصبحت وسيلة وأداة للتمثيل. فماذا تقول فى هؤلاء الذين يفسدون الوطن ويسممون حياة المواطنين ويقضون على مستقبل أجيال فى مقابل تحقيق مصالح صغيرة، ثم يخرجون متحدثين بعد ذلك عن الوطن وحب الوطن، ولا يسأمون من تكرار أسطوانات مشروخة فى هذا السياق؟! هل هناك وصف أبلغ من وصف «الممثلين» يمكن أن يقال فى محضر الحديث عن هؤلاء؟ ثعالب ترتدى مسوح الزاهدين وتمثل على الناس التدين حتى تحصد الدنيا، وذئاب تلبس ثوب الوطنية حتى تنهش لحم الوطن. لقد فضحت ثورة يناير تلك الحالة التمثيلية التى يحياها الكثيرون، تلك الحالة التى لم ينجُ منها إلا قليل، ولم تفلت منها أكثر القيم والأفكار قداسة، وأكثر المؤسسات هيبة ووقاراً.. واكتشاف العلة فى تقديرى يعنى أننا أصبحنا على مقربة من تحديد العلاج. لم يعد أمامنا حل إلا التخلص من تلك الحالة لنعيش حياة حقيقية تستطيع إصلاح ما فسد فى هذا المجتمع.. للشاعر «أحمد مطر» قصيدة كان عنوانها «الممثلون».. ينهيها -على ما أذكر- بأبيات شعرية بديعة يقول فيها: «فليسقط المسرح المهجور.. وليسقط الجمهور.. لا عرض بعد اليوم بالمرة.. لا عرض بالمرة.. فغاية القصور فى الثورة.. أن تعرض الثورة فى القصور»!.. الثورة انتصرت فى الشارع.