CNNبالعربية النقاشات التي تصاعدت مؤخرا بعد رفض السعودية شغل مقعد غير دائم في مجلس الأمن أظهرت مدى الارتباك حول السياسة الخارجية السعودية وأعادت طرح الأسئلة حولها، غير أن الانتقادات الموجهة ضد تلك السياسة واتهامها بأنها "غير مسؤولة" هي بحد ذاتها مضللة، فرغم ما قيل عبر وسائل الإعلام، بما في ذلك مقال فريد زكريا حول الموقف السعودي، فإن أسس السياسة الخارجية السعودية لم تتبدل منذ عقود، وهي واضحة وثابتة. لقد وصف وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، السعودية بأنها "لاعب كبير" في العالم العربي، واستنادا إلى هذا الوصف فإن المملكة تسعى إلى تعميم الاستقرار الاقتصاد والأمن السياسي في المنطقة، من خلال سياسة معتدلة ونشيطة واستراتيجيات تهدف إلى التصدي للمخاطر التي تمزق العرب والمسلمين. وهذه المقاربة السعودية تظهر بوضوح في خطوات الرياض الأخيرة. فعندما حاول متمردون إسقاط الحكومة البحرينية عام 2011، تدخلت قوات خليجية من درع الجزيرة، بقيادة سعودية، من أجل حماية البنية التحتية في المملكة الصغيرة، كما أن السعودية لعبت دورا كبيرا في إحلال الاستقرار باليمن، وذلك من خلال حزمة المساعدات الأمنية والاقتصادية والمبادرات التي أتاحت رحيل الرئيس علي عبدالله صالح وبدء مرحلة انتقالية تعمل خلالها الحكومة على وضع دستور جديد تمهيدا لانتخابات مقررة العام المقبل. وفي مصر، تدخلت السعودية بصفتها لاعبا حاسما في مواجهة أيديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين، ولعبت دورا في توفير الموارد المالية التي ساهمت في تقوية الحكومة المؤقتة والمعتدلة الموجودة اليوم في القاهرة. وقامت الرياض بكل هذه المهام بالتزامن مع الحفاظ على دورها ومسؤولياتها بصفتها راعية الحرمين، إذ أن للملكة موقعا مهما يجعلها قبلة أنظار أكثر من مليار ونصف مليار مسلم حول العالم، ويساعد المملكة على لعب هذه الدور القيادي رغبتها في أن تطال خيراتها الاقتصادية والمالية كل الشعوب المحتاجة. لقد أدت هذه المقاربة السعودية إلى زيادة الثقة في السياسة الخارجية للمملكة وتحولها من ردة الفعل إلى الفعل، إذ للسعودية دور كبير وعالمي في مكافحة التطرف الإسلامي. فرغم الصورة المعممة في الولاياتالمتحدة، والتي تُظهر المال السعودي على أنه مصدر من مصادر تمويل الإرهاب، إلا أن المملكة في الواقع كانت ضحية لهجمات تنظيم القاعدة الذي استهدفها قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 بسنوات. ففي عام 1995 على سبيل المثال، هاجم تنظيم القاعدة منشأة تدريب عائدة للحرس الوطني في الرياض، وبعد ذلك تعرض مجمع سكني في الرياض للتفجير عام 2003، وحصد ذلك الهجوم أرواح عشرات القتلى ودفع السعودية إلى شن حملة قاسية لاجتثاث الإرهاب. ولكن قبل ذلك بسنوات كانت السعودية قد أوضحت موقفها الدبلوماسي المناهض للإرهاب ولتنظيم القاعدة، فبعد الهجوم المتزامن على سفارتي الولاياتالمتحدة في كينيا وتنزانيا قيل إن الرياض طلبت من حركة طالبان تسليم زعيم التنظيم، أسامة بن لادن، وتردد أن الرئيس السابق للمخابرات السعودية، الأمير تركي الفيصل، قال عام 2001 إن قائد الحركة، الملا عمر، وافق مبدئيا على ذلك، ولكنه غير رأيه بعد ذلك ووجه انتقادات للمملكة. ورغم الفشل في ضمان تسليم بن لادن، إلا أن جهود السعودية في مكافحة الإرهاب دمرت بنية تنظيم القاعدة التحتية في المملكة، وأدى ذلك إلى منع هجمات عناصر التنظيم داخل السعودية وخارجها، بما في ذلك عمليات استخبارية قادتها السعودية وأدت إلى منع محاولتي تفجير لطائرات شحن كانت بطريقها من اليمن إلى أمريكا. ولكن مسؤولية السعودية لا تقف عند حد التصدي للإرهاب، فلديها مسؤوليات أكبر تتعلق بضمان الأمن الاقتصادي الدولي انطلاقا من موقعها على رأس الدول المصدرة للنفط في العالم، لقد أدار السعوديون إنتاجهم النفطي بطريقة منطقية وواعية وحافظوا على تدفق الموارد النفطية وتصدوا لخطر حصول اضطرابات غير متوقفة في الأسواق كما حصل مع دول مثل إيران والعراق وفنزويلا. وبصرف النظر عن الإحباط الغربي حيال السعودية، فإن المملكة كانت على الدوام الحليف الثابت والراسخ للولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ عام 1945، وقد حاولت الموازنة بين قيادتها للعالم الإسلامي وشراكتها مع واشنطن، وقد سبق للوزير كيري أن ركّز على هذه النقطة تحديدا عندما قال إن لدى الرياض "القدرة على التأثير على الكثير من الأمور" التي تهم الأمريكيين أيضا. وبالعودة إلى قضية المقعد في مجلس الأمن فإن البعض قد يسأل عن دوافع رفض السعودية له إذا كانت فعلا راغبة في لعب دور دولي مسؤول، والإجابة هي أن القرار كان جزءا من جهودها لترسيخ مسار أكثر استقلالية، فالرياض وجدت أن هوة الخلاف بينها وبين واشنطن ودول أخرى قد اتسعت بسبب طريقة التعامل مع الملف السوري، وقد كرر وزير الخارجية السعودي قبل أيام دعوة مجلس الأمن إلى التدخل ل"إنقاذ" سوريا. وإذا ما كانت السياسة السعودية الخارجية المستقلة تبدو تصرفا "غير مسؤول" بالنسبة لفريد زكريا، فهذا حقه. ولكن الحقائق التاريخية تظهر أن السياسة الخارجية للمملكة مستقرة وناجحة ومسؤولة أكثر مما يدرك البعض.