"هناك من لا يستولي على ماضيه بشكل يمكنه من تجاوزه والتعامل معه باعتباره محطة مرت بكل ما لها وعليها وبقيت منها فقط الذكريات والعبر." محمد العصيمي العرب - لندن في كل دولة عربية شخص أو مجموعة أشخاص يقعون خارج العقد الاجتماعي المتفق عليه في بلدانهم. ومثل هؤلاء الرجال ينتهون إلى أحد أمرين: إما النفي الاختياري والقتال في مكان ما حتى الموت، وإما السجن إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. وهم، هؤلاء الخارجين عن النظام، متطرفون في آرائهم وتخريجاتهم للنصوص الدينية التي يُخرّجها غيرهم على خلاف رؤيتهم الخاصة لهذه النصوص. بل إن هؤلاء المتطرفين، اشتهروا بتوزيع بطاقات الكفر بكرم بالغ على كل من لم ينضو تحت ألوية تشددهم، التي يقر كثير من علماء الأمة، السابقين واللاحقين، على أنها قد تصل بمن يرفعونها إلى مرتبة الغلو والتنطع المذموم في الإسلام. وبما أنني هنا أحلل ولا أحكم فقد لفتني وهالني، حديث السعودي وليد السناني الأحد الماضي لبرنامج الثامنة في قناة إم بي سي، الذي يقدمه الإعلامي المعروف داود الشريان، حيث تغير (الولد) الذي زاملته في المعهد العلمي بالرياض شكلا ومضمونا، فلم يعد ذلك الذي نعرفه، نضرا ومبتسما وسريع البديهة، مقدما للتفاؤل على التشاؤم والحب على الكره، وداعيا الجميع إلى مشاركته وجبة الفطور البسيطة. بدا، وقد أمضى إلى الآن قرابة العشرين سنة في سجن الحائر بالرياض، أنه ابتلع كمية هائلة من المضامين الفكرية القطعية التي لم تترك له فسحة يُطل منها على العالم الذي تغير كثيرا منذ حرب تحرير الكويت التي مضت عليها الآن 23 سنة. تلك الحرب التي أعلن وليد مع آخرين أنها غزو كافر لبلاد المسلمين، ليخرجوا أو يعارضوا بذلك فتوى كبار مشائخ وعلماء السعودية، ومنهم مفتي المملكة آنذاك فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز، رحمه الله، الذين رأوا جواز الاستعانة بجنسيات متعددة من المسلمين وغيرهم لصد العدوان والدفاع عن البلد. وقد توالت بعد تلك الحرب تناقضات فتاوى مدرسة بعينها مع المدرسة العامة في المملكة، التي يمثلها بعض المشائخ المعترف بهم، ويمثلها، رسميا، هيئة كبار العلماء في المملكة، التي سماها وليد السناني في حديثه التلفزيوني بهيئة كبار العملاء، ما يعني أنه ذهب، بعيدا جدا عن خطوط التماس مع (التهدئة) التي اختارها بعض زملائه في مدرسة التشدد ليعودوا إلى صفوف المجتمع مكرمين منعمين. وهذا ما حاول المذيع استبطانه وهو يحاور ضيفه المتمسك بنصه الفكري القطعي، الذي لا يقبل النقاش ولا يقبل المساومة كما أوحى هو نفسه بذلك. وقد كان القصد من محاولة الاستبطان تلك أنه ما دام كثير ممن رافقوك في مدرسة التشدد أو الغلو عادوا إلى صوابهم واختاروا أن يعيشوا حياتهم وينهلوا من مباهجها، فلماذا تصر أنت على البقاء خلف القضبان وتصر على هذه الأفكار التي لا تمت للواقع بِصلة؟ وقد كان هذا السؤال، أو هذا النقاش، عقيما لم ينجب إجابة شافية لا للمذيع ولا للمشاهدين. وسبب عقمه، أنه يجري مع ضحية فُتنت بمشائخها وآرائها وانغلاقها على بعض الكتب والنصوص، فلم تعد قادرة على التمييز ذاتيا بين الفعل وردة الفعل. وفي اعتقادي الجازم أن وليدا وغيره من الشباب، الذين لا يزالون يستظلون بظل أفغانستان وظلال أخرى ملتبسة، فقدوا القدرة على الفعل الذي يؤدي إلى (الفهم)، لكونهم يرفضون أن يصدقوا أن ما حُقنوا به سابقا من الأفكار، لم يكن سوى أخطاء متراكمة لابد من الاعتراف بها والرجوع عنها. ولذلك لم تكن هناك فائدة من الضغط أو محاولات (التفهيم) بأن بعض من ورطوك وورطوا غيرك تبدلت حياتهم وأصبحوا نجوما ملء سمع وبصر الناس، تُقبل رؤوسهم في المحافل الجديدة مع المحافل القديمة التي كانت، أيضا، تُقبل فيها رؤوسهم. لقد تغيرت الرؤوس القديمة وبقيت رؤوس أخرى، ومنهم وليد السناني، لم تتغير لأنها غير قادرة على تطليق الماضي، الذي طلقه البعض طلاقا بائنا. وبالتالي لن يكون سهلا أن نتخيل أنه قابل للاندماج أو الانصهار فيما انصهر فيه مشائخه السابقين، بل إنه من شدة التعلق بأهداب الماضي أصبح غير قابل للتعلم أو التزود الفكري، حتى أنه تُعرض عليه قوائم كتب جديدة وهو في سجنه ليختار من بينها ما يرغب بقراءته فيرفض أن يقرأ، غير تلك الكتب السبعة أو الثمانية التي توجد في زنزانته منذ دخلها. وهذا يدلنا على أن الرجل يعيش نفسيا حالة توحد شديدة مع الماضي. بمعنى آخر هناك من الناس، ووليد منهم، من لا يستولي على ماضيه بشكل يمكنه من تجاوزه والتعامل معه باعتباره محطة مرت بكل ما لها وعليها وبقيت منها فقط الذكريات والعبر. ولذلك تجدهم ينغمسون بقوة في تفاصيل هذا الماضي إلى أن يصبح الحاضر، كنتيجة طبيعية للانغماس الشديد في الماضي، خارج تفكيرهم ووعيهم. وهذا هو ما يفسر رفضهم لكل شيء وغضبهم على كل شيء، فالحكام طواغيت والعلماء المعتبرين عملاء وبعض الفتاوى كُفرية، والإنسان على ضلال إلى أن يثبتوا هم، وليس غيرهم، أنه على هدى. وعند هذه المرحلة يصبح من العسير على المجتمع، الذي يريد أن يتعامل مع الحاضر باعتباره جسما صحيحا وليس معلولا، أن يهضم هؤلاء في صفوفه ولا هم، بداهة، قابلين لهذا الهضم الاجتماعي. وتكون النتيجة نشوء عداوة واضحة بين هذا الفرد الذي يعيش في الماضي والمجتمع الذي يعيش في الحاضر ويتطلع إلى المستقبل. وبطبيعة الحال المنتصر في النهاية، هو المجتمع بكل قواه السياسية والاقتصادية والفكرية وقواه المجتمعية والمدنية، المتغيرة والمتجددة، بشكل عام. التغير، كما ولابد أن وليد السناني قد قرأ ذلك من قبل، هو سنة الحياة، والجمود هو عدو الحياة اللدود، إذ لا نتيجة له سوى ما رأيناه من حديثه، وهو التوقف عند ذلك الماضي بينما الناس يعبرون. وهو إما مقتول في ساحة جهاد ملتبسة أو سجينا منسيا فاقدا لعلاقته بالحياة والناس والتطور. وهو، أي الجمود الكامل أو الجزئي، هو ما جعلنا كأمة في زماننا هذا في المقعد الخلفي لقاطرة الأمم، والمسؤولية الفكرية في النهاية تقع على عاتق أولئك الذين يغزون الشباب بأفكارهم الهدامة ثم ينسحبون إلى مباهجهم.