لا تزال الشعوب العربية تعيش في مأساة البطل الغائب الذي سيحقق خروجه يوماً ما العدل والرخاء وردع الظلم، فقد عاشت أمم تنتظر خروج المهدي في آخر الزمان لقيادة انتقام المظلومين ضد الظالمين، وكانت النتيجة عصوراً من الضياع والبؤس، لدرجة أنها ذلك الانتظار أصبح بمثابة العقيدة التي إذا لم يؤمن بها الشخص يخرج من الدين، وقد ظل ذلك الوهم يعشعش في عقول الكثير، ويؤدي دور المهدئ والمسكن لآلام الشعوب المغلوب على أمرها..، كان من نتائج تلك الثقافة أن ترى العجب فيما يحدث في بلاد الرافدين، فقد أثبتت العقول المتعلمة والمتحضرة أنها لا زالت تعيش في ذهنية مهووسة بفكرة الانتقام والثأر. وفي جانب آخر عاشت شعوب أخرى تنتظر الدكتاتور العادل الذي يضرب الجميع بيد من حديد، ويحقق العدالة بقوة القهر والسلطة، وذلك خوفاً من رغبات الانتقام والثأر عند البعض، والتي ورثتها الشعوب العربية أباً عن جد، لذلك كان ولا زال بعض العرب يحن للدكتاتور الذي يلوح بيده للجماهير في مكان، و يسحق بأعوانه الجميع دون تفرقة في مكان آخر ، وإلى الزعيم الذي يبني تمثالا له في كل ميدان، ويغرس في عقول الناس الولاء المبطن بالخوف، وإلى القائد الذي تكون منزلته العليا فوق الدستور، وتدخل جرائمه في حق الشعوب في باب حسن النوايا وتطبيق القانون. يبدو أن عبادة طواغيت الماضي حقيقة، وليس مجرد أسطورة تتداولها الكتب القديمة، فقد كان العرب في الجاهلية يعبدون أصناماً كانت بمثابة جسد للطاغوت المتحجر، والذي يستنزف قواهم وطاقاتهم من أجل إرضائه، وإن كان حجراً قابلاًِ للكسر، وفي قرون لاحقة عادوا من جديد يبحثون إما عن المهدي الغائب أو عن المستبد المستنير، فكانت الكارثة في حدوث الطغيان في أرفع مستوياته، يقول الكواكبي «العوام هم قوة المستبد وقوته،بهم عليهم يصول ويطول،يأسرهم فيتهللون لشوكته،ويغصب أموالهم فيحمدونه علي إبقائه حياتهم، ويغري بعضهم علي بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيماً». جاء الربيع محملاًِ بثورات تبشر بالديمقراطية، وتنبئ بخروج ثقافة البطل الذي لا يُهزم، والزعيم الذي لا يُسأل، والمهدي الذي لا يُقهر، لكن بعض الشعوب لم تستطع التكيف مع نسمات الحرية، فعادت إلى سابق عهدها تبحث عن الزعيم المهيب، فخرج العراقيون يبحثون عن صدام بعد أن أذاقتهم دعاة الانتقام والثأر التاريخي الويلات، وعادوا يفتشون في أوراقه، وكيف يعيدون إنتاجه من جديد لمواجهة التهديد الفارسي المتطرف، وعاد المصريون يبحثون في أوراق عبدالناصر من أجل اكتشافه من جديد في هيئة القائد العسكري الجديد، بعد أن تركهم مهزومين في المعركة المنتظرة، وكأنهم قلقون من العيش في أجواء من الحرية خالية من رقابة أمن دولة. في سوريا حالة انتظار بعد أن وقف بعضهم مبكراً مع بشار الأسد ضد دولة الحرية والديمقراطية الموعودة، وكأن تلك المواقف تعيد للمقولة الشهيرة قابلية الاستعباد والاستبداد الوهج من جديد، فقد أثبتت الأحداث أن الشعوب تخاف من الحرية لدرجة أنها تتمنى عودة التسلط والاستبداد وبقاء الحكم العسكري في ميادينها، وقد يكون السبب أنها لا زالت مثقلة بهموم الماضي الملطخ بالدماء والثأر والنزاعات الطائفية. في نهاية المطاف لن يصح إلا الصحيح، فالأبطال انتهى زمنهم، والمهدي الغائب لن يعود، وكما قيل إذا كان هناك بطل فثمة كارثة في الطريق، وإذا كان هناك مهدي منتظر فثمة البؤس واليأس إلى حين، ولن يجدوا حلاً سواء في العراق أو سوريا أو مصر أفضل من حل التعايش تحت مظلات القانون والتسامح المذهبي، ولن يجدوا مخرجاً غير ذلك، مهما بذلوا من جهد لاستدعاء الماضي، ليعود لحكم الحاضر والمستقبل، وإن نجحوا فعلاً، لن تدوم تلك المرحلة، لأن قطار التغيير قد وصل إلى أعتاب العرب، ولن تعود عرباته إلى الخلف مرة أخرى.