في كل هذا المشهد المحزن والمؤلم، ينبثق الامل الكبير بأن هذه الشعوب ستتعلم درساً واحداً، ويكفي به درساً لتضع اقدامها في مسار، المؤمل أن ينقلها من عالم الاستبداد الى عالم الحرية من عالم الارتهان الى عالم الاختيار، ومن عالم العجز الى عالم القدرة يجلس الزعيم في أكثر اللحظات حرجاً في تاريخه، وعلى شفا حفرة من سقوط نظامه، وفي وقت يستقبل فيه العالم الثوار يسبغ عليهم اعترافه، وفي وقت تضيق الارض عليه بما رحُبت، ويتخلى عنه أصدقاؤه المقربون وأركان نظامه الاقربون ... يجلس إلى طاولة الشطرنج مع رئيس الاتحاد العالمي للعبة متسربلًا بالعتمة حتى ناظريه، يحرك بيادقه الاخيرة وهو يخفي عجزاً وكبرياءً تهاوى... ربما يفكر ملياً في تحريك ما تبقى من جنوده وقلاعه. يهمس لزائره كيرسان ايليومغينوف: لا أفهم ماذا يريد حلف الاطلسي والثوار الليبيون، يريدونني ان أغادر البلاد. ولكن من يخلفني؟ وما نوع الدولة التي ستقام؟؟! يا إلهي... القائد مازال مشغولا بمن يخلفه وبنوع الدولة التي ستقام؟! ولو أوتي رئيس كيرسان شيئا من شجاعة الحكمة في هذه اللحظة الحرجة، لا قدرة تحريك بيادق الشطرنج فقط.. لأنهى اللعبة سريعا صارخا في وجه محجوب بثقل المآل وانحسار الافق وانتظار النهايات "كش" زعيم. انتهت اللعبة ولم يتراجع القائد. مشهد محزن ينذر بنهايات فاجعة. أما الكلفة فعالية دماء وأشلاء وبقية من مقومات حياة تتطلب عقودا لاستعادة البناء. واذا كان الليبيون قادرين على بناء بلادهم بعد نهاية هذا الفصل الكابوسي المظلم والمعتم والمنهك، فلايمكن حتما استعادة تلك المرحلة إلا وهي مغموسة بسيرة زعامة بقدر غرائبيتها التي لا تخلو من نزعة تمثيلية تتخفى تحت آلة استبداد حجبت كثيرا من الحقائق خلف جبال من الاكاذيب. في كل هذا المشهد المحزن والمؤلم، ينبثق الأمل الكبير بأن هذه الشعوب ستتعلم درساً واحدا، ويكفي به درساً لتضع اقدامها في مسار، المؤمل ان ينقلها من عالم الاستبداد الى عالم الحرية، من عالم الارتهان الى عالم الاختيار ومن عالم العجز الى عالم القدرة. أما هذا الدرس فإنه من المحال ومن غير المقبول بعد اليوم، وبعد هذا الفصل التاريخي المؤلم والمحزن والمدمر ان يعاد إنتاج مستبد او طاغية او زعيم أوحد يقف على رأس السلطة، مرتهناً شعبا ووطنا وقدرات انحسرت عن المجموع حتى الاملاق المعنوي والمادي. لقد دفع الشعب الليبي بالتجربة والمعاناة والثورة الدامية كلفة باهظة لاقتلاع الاستبداد ممثلا بالزعيم والقائد الاوحد وسلالته المتورطة بالانتهاك والقتل، وسيظل هذا الدرس في وعيها وهي تستعيد تفاصيله وتقرأ مآله، وتدرك كم دفعت من اثمان باهظة لارتهاناته. مشهد يدعو للحزن والرثاء والحنق على هذا العقل المدمر الذي يصم أذنيه عن عذابات وتوسلات ورجاء شعب لا يريد اكثر من فرصة يدير بها شؤونه، ويقطع مع مرحلته بعد رفضه ولفظه...إلا أن ثمة اصرارا غريبا على مواجهة النهايات على طريقة: عليّ وعلى اعدائي. العقلية الشمشونية تجذرت في وعي زعامات اهتزت وتبعثرت وتهاوت ... إلا انها ظلت تتشبث بأمل البقاء رغم الدماء والحرائق والانهيار الذي بدت ملامحه منذ الساعة الاولى في شارع رفض استدامة هذه الاوضاع الشاذة. واذا كانت هذه حال القائد في ليبيا، فلم تكن الحال بأفضل منه في اليمن، ففي اليمن يبدو المشهد معقدا وعلى درجة كبيرة من الخطورة. كان ثمة فرصة للزعيم - الذي طال مكوثه حتى توهم انه بعد ثلاثين عاما لا يمكن إبعاده- تمكّنه من الخروج بكرامة وهو يضع مستقبل وسلامة اليمن وتعقيدات الحالة اليمنية اولوية تحول دون الانزلاق في احتراب وتفكك وصراع داخلي قادم لا محالة اذا استمرت هذه الممانعة العبثية. جاءت المبادرة الخليجية حبل نجاة للزعيم، وهي تحاول أن تستل الاحتمال الخطر لانفجار لا يبقي ولا يذر. المراوحة والمراوغة لم تجعلا هذه الفرصة محل تقدير مناسب للخروج من حيز الاصطفاف الاعمى لحيز الوعي بتغير المعادلة، وأن ثمة شارعا قرر الاصطفاف حتى الرحيل. اربعة اشهر كشفت عن قدرة شعب متخم بمشكلات الفقر والبطالة والبؤس... يتجاوز كل المعوقات ليقف دون حقه في صناعة قدره. لم يدرك الزعيم ان العبث في حمى القبيلة هو تسريع في حسم النهايات. ظل الشارع متوقفا عند حدود " ارحل" ولا طاقة اوسع من هذه الحناجر. إلا ان المسألة عندما وصلت لحدود إشعال النار في ثياب القبيلة جاء الرد سريعا ومؤلما وانفجارا مروعا. القبيلة لا تكتفي ب "ارحل" انها ترسل معها القذائف أيضا. الشباب الثائر في ميدان التغيير لا طاقه له وهو الذي أحدث هذا الفصل التاريخي الفائق في انضباطه وإصراره أن يلجأ لأداة تدمره وتنزع عنه مشروعية مطالبه السلمية. إلا ان المساس بزعامات القبيلة له حسابات اخرى. لم يكن الرد سوى على طريقة القبيلة المدججة بالسلاح والجاهزة لإيماءة من شيخها. ماذا على الزعيم والرئيس لو قبل في لحظة تاريخية تسجل له لا عليه، أن يقدم مصلحة وطنه على كبرياء قامته الرئاسية. لماذا على اليمن الفقير والمتعب والمرهق أن يدخل في مأساة تعيده عقودا للوراء عبر اقتتال داخلي تحاك خيوط لعبته بمعزل عن سؤال وماذا بعد. ألم يكن التاريخ حاضراً في مشهد التداعيات؟ "كش" زعيم ...تهاوت البيادق وتبعثر الجند، وأعيد خلط المراحل. ربما فاته القطار الآن، الذي لم يجر في اليمن قط ... هناك أنفاق وكهوف معتمة فقط!! الميدان الثالث حالة استعصاء كبير. يهون أمامه مأزق اليمن او ليبيا. ففي ليبيا هناك فرصة تاريخية تأتت ليؤسس ثوارها منذ اليوم الاول مجلسا انتقاليا يتولى ويتفاوض ويدير معركة التغيير. في اليمن ثمة مخاوف، ولكن ثمة توازنات بشكل او بآخر ... بين القبيلة والنظام، وشباب الميادين وأحلاف المعارضة. ثمة أيضا عمل سياسي يأخذ طريقه - رغم تبادل القذائف - عندما تصل توازنات القوى الى المعادلة الصفرية. الوضع في سورية يبدو عصياً على التحول. انها حالة خاصة لا يجري عليها ما يجري على سواها الا بتفكك تلك المنظومة الهائلة من الممانعة الغامضة والمتلبسة للنظام وأحلافه في الداخل والخارج. لم تعد القضية حزباً حاكماً انقلب على مشروعه منذ اربعين عاما. وقدم في بلدين عربيين كبيرين وغنيين أكثر النماذج انغلاقا وقمعاً ودموية وتعطيلًا. سورية حالة استعصاء، كحالة النظام مع الممانعة التي يجيد رصف مفرداتها وتسويق اوهامها. أسلوب النظام في مواجهة الازمة مع شعبه مغرقة في نزعتها الدموية المرعبة، ونهجها في تصفية أي حالة احتجاج مهما كانت سلمية. واقع المواجهة التي اختط فيها النظام طريقا لا رجعة عنه والذاكرة التاريخية القريبة لشعب يواجه خطر التصفية الجماعية تدفعه قسرا للبحث عن ملاذات آمنة. مناورات كثيرة وحالة غموض مقصودة، وإطلاق عناوين دون تفاصيل او خارطة طريق تحظى بالثقة.. إنها سمة حالة مواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات. النظام المغلق والمستغرق في المعالجة الامنية القمعية، كثيرا ما يلجأ لمناورات تربك المراقب، وتحول اتجاهات الصراع وتخفي حجم التنكيل. الوصول الى حالة التهجير مأزق إنساني وكلفته عالية، وعامل ضغط كبير على الداخل. النظام السوري مازال حتى اليوم يحظى بدعم خارجي إقليمي ودولي، ويبدو أن ثمة من يريد ان ينجز النظام مهمته في اقرب وقت لتلافي المزيد من الاحراج!!. مازالت بيادق اللعبة الدموية في سورية تتحرك على رقعة بلاد الشام من قرية لقرية ومن جسر لآخر، ومن مدينة لأخرى. اهتزت رقعة الشطرنج. سقطت الاقنعة وتهاوت الألاعيب القديمة، وانحسر مد الممانعة الكذوب. إنها المقدمة الضرورية لسقوط قلاع الاستبداد والقهر الطويل..