ما يجري في مصر الآن يشبه حرب استنزاف. الإخوان المسلمون أطاح الجيش المصري بحكمهم في انقلاب سلمي حظي -ظاهرياً على الأقل- بتأييد كاسح من معظم القوى الفاعلة فى مصر - بما فيهم حزب النور السلفي. ولم يكن هذا التأييد مستغربا، فالإخوان في مدة حكمهم القصيرة لم يدخروا وسعاً في جلب العداوة لهم من كل جانب: من الجيش، من القضاء، من المؤسسة الدينية، من المؤسسات الإعلامية، من الأطراف المنضمة لجبهة المعارضه، وبطبيعة الحال من أنصار الحزب الوطني (حزب الرئيس السابق حسني مبارك). يضاف إلى ذلك إساءتهم لإدارة الحكم- كما أقر بذلك لاحقا أحد قياديي الحزب. ربما كان هدف الانقلاب منع الإخوان المسلمين من المضي في سياسة الإقصاء والتفرد بالحكم على طريقة (تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك). لكن الإخوان المسلمين رأوا فى الانقلاب -كما يسمونه دائما- اغتصاباً لحقهم الشرعي في الحكم الذي حصلوا عليه بانتخابات رئاسية رضي بها الجميع، ولم يتقبلوا مبررات الانقلاب ولا الظروف التى عجلت به- خاصة مظاهرات يوم 30 يونيه الحاشدة. وجعلوا مطلبهم الوحيد الذي سيروا من أجله المظاهرات في بعض ميادين العاصمة وفي مدن أخرى وفي الجامعات: استرداد الشرعية وعودة الرئيس محمد مرسي. ولم يثن الإخوان عن إصرارهم على هذا المطلب حبس زعمائهم ولا مبادرات الصلح -من داخل البلاد وخارجها- التي حاولت تهدئة الأوضاع وتقريب المواقف. ومن الواضح أن الإخوان يصرون على هذا المطلب ويصعدونه بمظاهرات الطلاب الجامعيين المؤيدين لهم، ويتجاهلون أن الرئاسة الشرعية التي حصلوا عليها إنما وصلت إليهم بفضل أصوات الناخبين غير الإخوانيين الذين أرادوا الحيلولة دون فوز المنافس المحسوب على الحزب الوطني (حزب مبارك)، الذين يؤيدون الآن الحكومة الجديدة، لذلك فإن الإخوان يقفون وحدهم، وليس من المنتظر أن تؤدي المظاهرات الجامعية وغيرها إلى نتيجة إيجابية - اللهم إلا إلى إقلاق السلطة الحالية. وإذا استمرت مظاهراتهم ودعواتهم للعصيان فقد يترتب على ذلك تصاعد العنف والتطرف والإرهاب وتزايد الدعوات إلى ترشح الفريق عبد الفتاح السيسي لانتخابات الرئاسة، لشعور الناس بأن الأمن المضطرب لا يصلح له إلا حاكم عسكري يقف الجيش وراءه، وسيعود الإخوان إلى الحالة التي كانوا عليها منذ ثمانين عاما- أي إلى حركة قائمة على تنظيم سري مطارد، يتخرج منه حركات متطرفة إرهابية، وسيضاف إلى تاريخهم تجربة حكم فاشلة. وفي كل الأحوال فإن الخاسر هو الشعب المصري الذي أنهكه حكامه وأحزابه طويلاً، وحرموه من التمتع برخاء العيش وبناء النهضة الحضارية. ولكن من جهة أخرى فإن الحكومة القائمة -وإن كانت تواجه خصومة جماعة الإخوان المسلمين وتحظى بحماية الجيش وتأييد القوى والفئات الأخرى المناصرة لحركة عزل محمد مرسي- إلا أنها لا يمكن أن ترى في الإخوان المسلمين غير كونهم مواطنين من أفراد الشعب يشكلون تياراً قوياً منظماً ليس من السهل تجاهله، وأن معاداة هذا التيار واعتقال زعماء الإخوان ومحاكمتهم على أعمال أقدمت أيضا بعض قوات الجيش والشرطة التابعة للسلطة الحالية على أعمالشابهة لها - لن يجلب الاستقرار أو حلول الأمن، بل سوف يزيد النار التهاباً، والحكومة والجيش انشغالاً بالقضايا الأمنية الداخلية على حساب الخدمات وبرامج التنمية. لذلك كله فإن بقاء الوضع على ما هو عليه أو زيادة حدته سيؤدي إلى استنزاف ما لدى الشعب المصري من قدرات مادية ومعنوية وإلى احتقان وتململ إلى جانب إضعاف دور مصر فى الوطن العربي وفي العالم، بل إن هذا الوضع قد يحقق الهدف الأكبر لطرفين متصارعين: طرف أنصار الحزب الوطني المنحل (حزب مبارك) الذين يريدون عودة حكمهم أيضا، وهم يمهدون لذلك بتأييد الدعوة إلى ترشح الفريق السيسي لانتخابات الرئاسة ليكون حسني مبارك الآخر، ولست أرى في هذه الدعوة إلا فخا ينصب لوزير الدفاع (السيسي)، فلعله يتجنب الوقوع في حبائله. أما الطرف الثاني فهم الحركيون المتطرفون من جماعة الإخوان ومن غيرهم الذين يرون في وضع مضطرب البيئة الصالحة لنشاطهم والتربة التي تنمو فيها رؤوس شياطينهم - كما علمتنا الأحداث ذلك. حتمية إنهاء هذا الاستنزاف تفرضها مصلحة الشعب المصري أولا وآخراً، فلا مفر من الصلح بين الطرفين المتخاصمين - بل المتقاتلين، حيث يجب أن نأخذ في الاعتبار عشرات القتلى من المتظاهرين والشرطة قبل 30 يونية وبعدها - وذلك امتثالا لما أمرنا الله به في الآية التاسعة من سورة الحجرات: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. الصلح لا يتم دون مراجعة كل طرف لموقفه. وفي ظني أن الطرف الحاكم يمكن أن يبدأ بالبادرة الأولى التي تتمثل في التمسك بخارطة الطريق المعلنة سابقا، وتخفيف الضغط على المتظاهرين واستبدال الإقامة الجبرية بالاعتقال لمن لا يمارسون أو لا يحضون على العنف، والاعتراف بحقهم في العمل السياسي ضمن إطار حزب مرخص به، وعدم انزلاق الفريق السيسي إلى فخ الترشح للرئاسة وإعلان ذلك على الملأ - حتى لو كان الفريق هو الأكثر شعبية، كما قال عمرو موسى - ويكفيه فخراً أن يكون قائد الجيش الذي يحمي المسار الديمقراطي في دولة مصر المدنية. أما الطرف الإخواني فإن المطلوب منه هو النزول إلى أرض الواقع وليس إلى الميادين. الواقع يقول إن تمسكهم بسياسة السعي إلى دولة الخلافة الإسلامية يتعارض مع مبدأ الدولة الوطنية، ولا يكسبون من ورائه إلا عداوات الحكومات، فلا توجد دولة ترضى بأن تتنازل عن حدودها وكيانها وثرواتها. وإن وجد مؤيدون لهذه السياسة فهم ينتمون إلى حركات مؤدلجة لا تهتم بوطنها أو مجتمعها بقدر اهتمامها بالتنظيم الذي تنتمي إليه صراحة أو مواربة، وتطبيق النظرية الواحدة التي يبشر بها زعماؤه - تماما كما كانت تفعل الأحزاب الشيوعية التي كانت تطيع الحزب الأم في روسيا وتقمع شعوبها، فلم تنفعها كوادرها الحزبية عندما انتفضت شعوبها فانهارت جميعها. لا مفر للإخوان من الانتماء لوطنهم والعمل السياسي من خلال حزب مرخص له ذي مبادئ واضحة وبرنامج عمل واضح، مع التمسك بالعقيدة الإسلامية واطراح الأحلام التاريخية جانبا. إنهم يقدمون للإسلام خدمة جلى إذا شاركوا مع غيرهم من القوى الوطنية في بناء وطنهم لكي يصعد مدارج التنمية، كما فعلت شعوب ودول أخرى كانت مصر في يوم من الأيام أسبق منها في الدخول إلى عالم المدنية. الأمر يتطلب من الإخوان تطوير حزب الحرية والعدالة - بالاسم نفسه أو بغيره - إلى حزب مدني جذاب على غرار حزب التنمية في تركيا، والتخلي عن الجماعة كتنظيم حركي وتحويلها إلى جمعية تركز على العمل الدعوي والعلمي العلني وليس للتحايل على حل الجماعة. كل ذلك يمكن أن يكون أساساً صلبا للمصالحة الوطنية. مبادرات الصلح ليست قليلة - كما أشرت لذلك من قبل. وفي مصر الكفاية من الخبراء وأصحاب الرأي والنفوذ الذين يقودون جهود المصالحة. ما هو مطلوب هو مساندة هذه الجهود من خلال حشد تيار شعبي يضغط من أجل الصلح.