من علم أن الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة فلا أظنه يجهل أن الحج لا يجب إلا على القادر؛ لقوله تعالى: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً»، ومع أن الآية صريحة الدلالة في عدم وجوب الحج على من لا يستطيع إليه سبيلاً، سواء بماله أم ببدنه، إلا أن بعض الناس يأبى إلا أن يتكبد ولو كل مشقة في سبيل أن يحج، وهؤلاء على ضربين: أحدهما ممدوح مأجور - إن شاء الله - والآخر مخالف للسنة، واقع فيما توافرت الأحاديث النبوية في التحذير منه. أما الأول: فتكبّده للمشقة إنما هو من جهة إجهاد بدنه بالسعي للحج، فهو ضعيف أو مريض لا يكاد يستوي على الراحلة، ولا يحتمل زحاماً، ولا وقوفاً طويلاً، مشيه متثاقل معدود الخُطى؛ فيقاوم ذلك كله من أجل أن يحج، أو هو ذلك الفقير المتزهد الورع، يركب الصعب لأنه لا يجد الذلول، وتطول عليه شُقة السفر؛ لأنه لا يجد وسائل النقل السريعة، تمنعه عفته أن يستدين لعلمه بخطر شأن الدَّين، ويجهده الحرُّ أو القر، لا يجد مسكناً يلائمه لقلة ذات يده، فهذا وذاك وإن أتوا حجاً غير واجب عليهما؛ إلا أن لهما أجرَ ما سعيا وما جهِدا، ولم يكن عليهما من بأسٍ إلا تركهما الترخص برخصة الله تعالى. أما الضرب الثاني - وهو المعني بالحديث - فرجل قد سقطت عنه فريضة الحج لكونه لا يجد مالاً يحج به، غير أنه لا يجد في نفسه غضاضة ولا حرجاً أن يقترض ليحج، ولو كان لا يجد لدينه وفاءً، وربما ادّخر مالاً ليوفي به دَيناً حالاً، ثم لا يبالي أن يؤخر السداد ليعجل بالحج من دون أن يستأذن دائنه، فهذا أخطأ من حيث أراد إصابة الأجر والسنة، فقد عظم النبي - عليه الصلاة والسلام - أمر الدَّيْن، فكان لا يصلي على جنازة حتى يسأل: هل عليه من دين؟ فإن قالوا: نعم. تأخر ولم يصلِّ عليه، وقال: صلوا على صاحبكم؛ إلا أن يكون له وفاءً من ماله، أو يتبرّع أحد بسداده. سبحان الله! ما أعجب حال الناس! لو كُلفوا أن يستدينوا ليحجوا لما فعلوا؟! فكيف لا يقبلون رخصة الله سبحانه، ويستعفّون من إشغال ذممهم بديون لا تلزمهم أصلاً؟! أفيرضى أحدهم أن يماطله مدين في وفاء دينه متحججاً برغبته في الحج؟ ألا يعلم هذا أن الحج لا يلزمه حتى ولو تبرع له متبرع بنفقة الحج كاملة مؤداة؟ سئل العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - عن رجل أعطاه آخر مالاً ليؤدي به الفريضة، فهل يلزمه أن يقبل هذا المال ويؤدي به الفريضة؟ فأجاب: لا يلزمه، وله أن يرده خشية المنة حيث لم يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة. (مجموع فتاوى الشيخ 21/93). وقد نص الفقهاء على أن من عليه دَين حالٌّ ولا وفاء له، فلا يخرج في سفر، ولو لحجٍ حتى يستأذن دائنه، فإن أذن له، وإلا لم يسافر. إن تفسير هذه المغالطة من الحرص على السنة (الحج)، والتهاون في الواجب (سداد الدين) يأتي من إن سر هذا الحرص على الحج ولو بالاستدانة، أو بمماطلة الدائن تحجّجاً بالحاجة للمال من أجل الحج هو يكمن في شيوع الاستهانة بحقوق الناس في المجتمع، حتى يصبح الإنسان لا يبالي بأدائها، ولا تطاله معرة النقيصة والسبة في إهمالها، ولذا لا يرى هذا الحاج عليه من حرج أن يماطل في وفاء الدين، أو أن يستدين من أجل أن يستمتع هو بروحانية الحج، بزعمه ، أو أن يُباهي بعدد حجاته. اللهم إنا نعوذ بك من غلبة الدَّين، وقهر الرجال.