في اعتقادي أن العقل وحده لا يستطيع الوصول إلى يقين إيماني كامل، وقد بعث سبحانه وتعالى رسله وأنبياءه عليهم الصلاة والسلام ليساعدوا العقول في بلوغ اليقين، وبرغم إبداع الفلسفة الفكرية قديماً وحديثاً في تحقيق رؤية فلسفية لحياة الإنسان ورسالته على الأرض إلا أنها لم تصل إلى الهدف بمنطق مقنع.. ... مما أتاح للتسييس دفة إدارة المصالح وتوجيه عقول الناس وتنظيم وعيها. وبين الدين والفكر والسياسة يبقى أمن وسلامة حياة الإنسان جامع مشترك، وفي حين كان الدين هو الحاوي والموجه للبدايات البشرية فإن العقل والفكر خرج أيضاً منذ القدم ليملأ الفراغ حينما يتراخى الدين في النفوس ويضعف، وفي راهن اليوم نجد أن السياسة أصبحت تحكم وتوجه الدين والفكر، وهذا في رأيي هو منتهى الفوضوية، لأننا أصبحنا تحت سلطة مصالح لا تنتمي لا للدين ولا للفكر، وإنما تحكمها غرائز الملكية والاستحواذ، انظر إلى أي سلطة حاكمة في العالم، لن ترى سوى واجهات تنوب عن أصحاب مصالح مالية أو حزبية أو طبقية، ولن ترى سلطة إنسانية (فكرية)، لأن هذه السلطة المثالية الأفلاطونية أصبحت اليوم تعد من الأمراض النفسية التي تنزع صاحبها وتخرجه من الواقع وحتى المنطق. من المثير والملفت أن السلطة الدينية لم تظهر بين البشر على مر التاريخ عدا فترات قليلة جداً بالنسبة لعمر الحياة البشرية، غير أن أتباع الديانات المسيحية واليهودية أدخلت ما يسمى القدسية الرهبانية والحاخامية لا لترسيخ السلطة الدينية وإنما لاستثمارها الدنيوي، وهو ما لم يحدث لدى أتباع الديانة الإسلامية إلا في استثناءات قليلة، وحتى حين كانت الكنيسة الأوروبية ذات سلطة فيما قبل الثورات التحررية فإنها لم تكن وحدها بل ولم تكن إلا خادمة للامتياز والطبقية، وعليه، فالحديث عن سلطة دينية تناسباً مع تاريخ الحياة البشرية يكاد يصبح استثناء، بما في ذلك الديانات الوضعية المؤسسة فكرياً، وإذا كان استعيض عن الدين أو ملء الفراغ الروحي بالفلسفة الفكرية أو ما يعرف اليوم بالديانات الوضعية، فإن صمود هذا الفكر أو الدين الوضعي بهذه المسافة الزمنية ودون أن يعطل النمو والتطور هو في ما يبدو لي جدير بالتأمل، ولا غرو في ذلك فالدين والفكر ذوا علاقة متقاربة مع بعضهما أكثر وبكثير من العلاقة مع سلطة المصالح المادية، عندما طوع السياسي الدين لخدمته خسر الدين قيمته وتأثيره، وعندما استخدم العقل أو الفكر الدين لتحقيق فلسفته الإنسانية كان أكثر قدرة وقوة من السياسي في الوصول للتأثير المطلوب الذي يؤكده ترسخه وصموده الزمني. وأكاد أقول إن ما يجري اليوم من هجوم محموم على منظمة جماعة الإخوان المسلمين كعنوان وعلى تيار الإسلام السياسي بشكل عام قد يكون في عمقه رغبة واتجاه للتحالف بين العقل والمصالح (الفكر والسياسة)، لخلق أو صناعة هوية جديدة وهي بالحق ليست جديدة، فالنظم السياسية في الولاياتالمتحدة وأوروبا أسست منذ زمن طويل ما يسمى اليوم بالنظام الديمقراطي المتأصل فكرياً على الهوية الليبرالية والعلمانية في تحالف بين الفكر وإدارة المصالح، ورغم أنه يظهر كسياسي يمتطي ظهر الفكر لاستثمار إنتاجه بما يحقق مصالحه هو، إلا أنه أيضاً أعطى الفكر حقه الكامل في الإبداع والاختراع والاكتشاف إلى الحد الذي جعل العلاقة بينهما علاقات منفعة حيوية وربما مصيرية لكلا الطرفين. العجيب والمثير حقاً أن ثورات التحرر في أوروبا كانت صراعاً بين الفكر كطرف وبين تحالف الدين والسياسة كطرف ثان، في حين ظهر الربيع العربي في بعض ملامحه كتحالف بين الفكر والدين كطرف والسياسي كطرف آخر، ولأننا في خضم مخاض حقيقي سيغير حتماً طبيعة حياة الإنسان العربي، وكون أن فصول المسرحية لا زالت تدور أحداثها، فإن الهجوم المحموم لا يسمح ولا يتسع للتأمل والتفكير، بيد أن هناك أمراً لابد من إبرازه وإيضاحه، وهو أن أوروبا كانت تشتكي من دين ملوث ورهبنة مقيتة، في حين أن واقعنا السياسي والحضاري العربي والإسلامي بين الأمم لا يظهر ما يستحق الإشادة.