سيد الكرملين، القيصر الجديد الذي خطف مجلس الأمن منذ أكثر من سنتين، يمكنه أن يتباهى أمام الرئيس الأميركي باراك أوباما، بأن «مبادرته» في ربع الساعة الأخير، أنقذت سيد البيت الأبيض من نكسة كبرى في الكونغرس الذي لا يميل إلى ضرب سورية. والحال أن فلاديمير بوتين ينقذ النظام السوري إذ يقايض عملياً بقاءه بأسنانه «الكيماوية». أما مسألة الضمانات التي تمتلكها موسكو لتنفيذ دمشق ما أعلنت قبوله في شأن رقابة دولية على أسلحتها الكيماوية، فقضية قد تشهد من الإجراءات والمراوغة والتسويف، ما يجعل التلويح الأميركي بالخيار العسكري ورقة منسية. أنقذ بوتين ماء وجه أوباما، لكنه قصف الخيار العسكري الأميركي - الفرنسي، وآمال المعارضة السورية باقتراب الفصل «الحاسم» من الحرب مع نظامٍ ما زال يمتلك من الصواريخ والطائرات الحربية والبراميل المتفجّرة ما يمكّنه من استكمال خططه للقضاء على الثورة أو «الإرهابيين» بالتعريف الروسي - الإيراني. وإذا كان صحيحاً ان واشنطن لا تسعى في كل الأحوال إلى إطاحة النظام السوري بالقوة، فالصحيح كذلك أن ما سُمّي «المبادرة» الروسية، سيجعل ليل سورية وثورتها أطول، لأن الغرب - و «بفضل» موسكو - سيكون اختصر مِحَن السوريين بترسانة كيماوية، وحوَّل الصراع مع النظام والحرب على البشر والحجر إلى شأن داخلي «عادي»، ومنازلة مملّة، البقاء بعدها للأقوى. هدية بوتين أتاحت لأوباما أن يؤجل تجرّع الكأس المُرَّة لأي نكسة في الكونغرس، حيث الحاضر الأكبر العراق وأفغانستان، مهما كرر الرئيس الأميركي أن الضربة المؤجلة والمرتَجِفة ستبقى محدودة جداً، ما دام الهدف مجرد رسالة عقاب. وهو سارع في البداية، إثر ضرب الغوطتين بالأسلحة الكيماوية، إلى التقاط «الخط الأحمر» معتبراً أن النظام السوري تجاوزه بالفعل هذه المرة، وهدَّد أمن إسرائيل والولايات المتحدة. في خطابه ليل الثلثاء - الأربعاء تحدث أوباما عن المشاهد المروّعة لأطفال ينازعون، ولم يتساءل بالطبع عن قدرة الحليف الأول للنظام السوري، روسيا، على إرغامه على وقف القتل بوسائل غير كيماوية، ضحاياها تجاوزت مئة ألف. ويدرك الجميع في المنطقة، أن النظام سيسرّع وتيرة الحسم العسكري مع المعارضين المسلّحين، إذا نجحت إدارة الكرملين للأزمة في طي صفحة الضربة الأميركية. إلى جنيف، سيحمل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اليوم الاقتراحات التطبيقية ل «المبادرة» التي انتزعت من المعارضة السورية أقوى ورقة راهنت عليها لقلب ميزان القوة في الصراع. سيقدّم لافروف الى الوزير الأميركي جون كيري الضمانات الروسية لنزع «الأسنان» الكيماوية للنظام السوري على مراحل، لا يمكن أن تستجيب أي مهلة إنذار، قياساً إلى التجارب السابقة لدمشق في تعاملها مع الأممالمتحدة (من مفوضية اللاجئين إلى فرق تقصي الحقائق). ومهما اندفعت باريس إلى إبقاء الضربة العسكرية خياراً، فالأكيد أن موسكو أثبتت أن لا احتمال وارداً يجعلها تتخلى عن صدّ أي مسعى غربي لتحرير مجلس الأمن من عصا «الفيتو» الروسي. لم تكن مجرد مزاح عبارة التشفي التي أطلقها مندوب روسيا لدى الأممالمتحدة فيتالي تشوركين، بعد إحباط سريع لمشروع القرار الفرنسي في المجلس، إذ أبدى نشوة انتصار لأن «الجميع سيبقون واقفين على أصابعهم»... على إيقاع الكرملين! فعلَها بوتين في دفاع شرس عن بقاء النظام السوري، فنسي الجميع سريعاً تسليم الكرملين علناً بأنه لن يخوض حرباً لحماية بشار الأسد ونظامه. تلك كانت ببساطة، في رأي أوساط عربية، محاولة استدراج خبيثة وناجحة، أوهمت واشنطن وباريس برفع الغطاء الروسي عن دمشق، وبأن الطريق إلى ضربها باتت نزهة، حتى كانت مفاجأة «لا» البريطانية التي حشرت فرنسا وحيدةً في زاوية القرار الأميركي... وما إن ظن أوباما أن صفعة «الضربة المحدودة» للنظام السوري باتت في متناول يده وبنانِه، ليمحو ما علِق بصورته من اتهامات بالعجز والتردد بعد «مهزلة» الخطوط الحمر، حتى باغته الروسي بصفقة ربع الساعة الأخير: نزع «الكيماوي» في مقابل نزع فتيل التهديد ببديل لنظام الأسد. والسؤال اليوم، بعد خيبة المعارضة السورية ونكبتها بحلف دمشق - موسكو - طهران، وبتراخي الغرب وذعره من التورط في رمال الشرق الأوسط وصراعاته المفخخة، هو: هل يقرّ كيري لزميله لافروف بقبول شرط بوتين لإطلاق المبادرة «الكيماوية» على سكة التنفيذ، أي تخلي أوباما نهائياً عن خيار الضربة؟ ألا تُصدِم المعارضة دعوة الوزير الأميركي الرئيس السوري الى «أن يغتنم فرصة محاولة صنع السلام»، كأنه يعيد إليه الاعتبار ويُشرِكه في الحل؟ أوباما الذي «تعلّم من العراق»، تجنَّب إلى حين، الكأس المرّة، ولم يتطوّع هو ولا فرنسوا هولاند أو ديفيد كامرون لإقناع أي سوري بأن الحل السياسي للحرب والثورة والصراع مع النظام، ممكن ولو بعد عام 2014. كؤوس الثوار فارغة إلا من مرارات الوعود الغربية، والخِدع الروسية، ودماء شعب ستبقى رهينة، إذا أوكلت واشنطن إلى موسكو ايضاً تهيئة مسرح «الحل» في «جنيف 2».