إلى وقت قريب كنا في مواجهة دائمة وتذمر مستمر مع الإعلام، الإعلام بسلطته الأحادية المتسيدة على مدخلات ومخرجات الإعلام، وهي ما تسمى عرفاً إعلامياً بالبوابات الإعلامية والحارسة لكل ما يدخر جوف الفضاء الإعلامي المحتكر، كم كان ثقيلاً ومكروهاً لدرجة المقت، إلى أن اقتحم عالمنا ما سمي بالإعلام الجديد ومعه حزمة من نوافذ التواصل الإعلامي والاجتماعي، وأتاحت الأقمار الصناعية بأجيالها المتعاقبة الفرصة السهلة لامتلاك حزمة اتصالية يمكن من خلاها تمرير أي نوع من الرسائل وبكميات كبيرة يعجز الرقيب بوسائله التقليدية ملاحقتها والتحفظ عليها أو منعها، حتى لج فضاؤنا بالغث والسمين وانتابنا شعور بالزهو للانتصار الساحق الذي حققه الإعلام الجديد بضربة قاضية على الرقيب التقليدي، وكأن جداراً عازلاً سقط وتدافع كل ذلك الانحباس بغثه وسمينه إلى الجمهور المتعطش لكل شيء خارج قبضة ذاك الرقيب فتقابلت إرادتان وغوايتان، فحواهما حب التملك والتحرر من دون المبادرة لوضع استراتيجيات إعلامية بديلة، فانفلت الإعلام متشظياً بكل الاتجاهات بغض النظر عن طبيعة الثقافات والعادات والتقاليد ومن دون وضع الاعتبارات اللازمة والضرورية للأعمار والأجناس. نقف أمام هذا الانفجار الهائل مشدوهي الأعين مسلوبي اللباب كمشاهدي ألعاباً نارية، تدافع الجميع بلا بصيرة واعية لتلقف منتجات هذا الإعلام فأصبح أمام صناعه مضمار عريض وقد أطلقت صفارة السباق، التي لا تمنح الجشعين فرصة للتوقف والتدبر، كلهم يريد المكاسب المادية الكبيرة جراء لعبة عبثية اسمها الإعلام الجديد، وكأن الذين منحونا إياها يدركون جيداً عبثية استخدامنا لها، حتى خرج القطار عن مساره الصحيح وفجر عالمنا العربي باحتراب أضرم النيران في قلوب الناس حتى غصت بهم الساحات والشوارع. في البدء تباهينا بهذا الإعلام الجديد الذي فجر الربيع العربي ولم يفجر ثقافة نوعية تحسب له، ولكي تكتمل حلقات هذا الاستحكام الإعلامي الجديد الفارغ من المضامين الجادة والواعية تداعت القنوات الفضائية الرخيصة لاكتساح هذه الشعوب من خلال تسليع المبادئ والقيم وتعليقها بحبال الأهواء والشهوات وكم هو الأسى والأسف الذي يجرح القلوب حينما تطلق قناة تنسب نفسها للعمل الإسلامي وتتقدم للسذج بحلية الدين، أو بمعنى أصح حيلة الدين، مدفوعة بأهواء مادية ومحصلة وضيعة من خلال تثوير صراعات فكرية ودينية ومذهبية. وقعت شخصياً ببراثن هذه الحيل في عدد من القنوات الفضائية النابتة على ضفاف الفتنة، منها قناة ذات ميول موالية لأميركا، التي حللت فيها ضيفاً على برنامج مساواة وكان الهدف من هذا الحوار تقديم مفهوم خاص للمساواة والحرية، على مقاس أرباب هذه القناة، يسوق بطريقة ناعمة وذكية على مجتمعاتنا العربية. أما القناة الأخرى فهي قناة إسلامية «سرورية»، تلك التي استطاعت أن تطرح قضايا جريئة أقل ما يقال عنها إنها توغر الصدور وتبث شوك الكراهية والضغينة بين أطياف المجتمع ككل، وكان المقاس المعتمد للضيف هو الجرأة لا تهم الصدقية بقدر قدرة الضيف على الحرب والمواجهة، لم أعلم شيئاً، قبل دخول الأستوديو لبث الحلقة مباشرة، عن الضيف الآخر أو الخصم أو الند، لأفاجأ بأن خصمي هو الدكتور محمد النجيمي، الذي تحدث حينها بأسلوب شوفيني يقسم المجتمع السعودي إلى إسلاميين وعلمانيين، وكان الحديث حول رقابة الكتب، مستنكراً إتاحة الفرصة للكتب التغريبة، بينما تمنع كتب سيد قطب، ولا أدري لماذا كتب سيد قطب تحديداً في مثل ذلك الوقت، إذ القلوب المحتقنة آنذاك على معرض الكتاب! ثم قناة «ستار أكاديمي» الدينية، التي فاجأتني أيضاً بمحاور الطرح والضيوف الجاهزين تماماً لخوض معركة بحجم الضجيج وإقحام الخصم، وكأنهم قد تواطؤوا على محاور تعد سلفاً لإلقاء التهم غير البريئة على بعض الكُتّاب والمبدعين. والمحصلة لكل هذه القنوات ذات الصفات المذهبية والدينية، بما في ذلك القنوات ذات الاتجاه الترفيهي العشوائي، اكتساح السوق الإعلامية أو المهرجان الإعلامي لنيل قصب السبق لأغراض وضيعة، قد لا نعتب كثيراً على القنوات التي لا تستخدم الدين كمطية للوصول إلى الآخر، لأنها ببساطة مكشوفة الأهداف والغايات، إنما العتب كل العتب يقع على أمثال تلك القنوات التي تضع نفسها في مواجهة مع المذاهب والتيارات الأخرى لتستحث بدورها قنوات مناهضة لها حتى تنفصم عرى المجتمعات وتنقسم إلى طرائق قددا. وإمعاناً في الإفساد تستخدم هذه القنوات شبكات التواصل الأخرى لتقوم بدور الوسيط الدعائي والإعلامي لتصل إلى جيوب أكثر كم من المتابعين المستثارين الحانقين المساكين ذوي الحمية الدينية. وساعة تقع الكوارث ويبلغ هذا الاحتقان مداه تستعر هذه القنوات بشراهة وتبحث لها عن عرابين مثيرين للغط إلى حد الغلو في كل شيء من كراهية وأحقاد ليس للتسامح طريق نافذ إليها. على ضفاف هذه القنوات ونوافذ التواصل الاجتماعي استحدثت مجموعة من المواقع الإلكترونية تُسمي نفسها صحفاً إلكترونية لتقف في مواجهة محمومة مع الصحف الورقية، فما لا تستطيع هذه الأخيرة الخاضعة لسلطة الرقيب تناوله يكون صيداً وفيراً لها، مستخدمة الأسلوب الإعلامي الجديد نفسه من إثارة وتحريض وغوغاء، محاولين بكل ما أوتوا من قوة الاستحواذ على الكثير من المتابعين، وهذه المواقع تحديداً ما يمكن أن يثار حولها مجموعة من الأسئلة، خصوصاً أنها لا تتكسب من هؤلاء المتابعين أكثر من استخدامهم كمطية لمآرب واتجاهات معينة؟ تتخذهم كحطب تزيد من أوار النار التي لا تفتأ تنفخ فيها من خلال كتّاب مثيرين للغط والجدل، فمن أين تحصل على دعمها المادي لتقف على قدميها؟ هل هي جهات معروفة أو مشبوهة، أي إعلام جديد هذا الذي يطل علينا بوجهه القبيح، الذي لا يحرضنا للاقتراب من بعضنا البعض قدر تحريضه للكراهية وزراعة الأحقاد بيننا... يا لهذه البشاعة الإعلامية الجديدة ويا لقماءة العاملين بها.