أمر مؤلم جدا أن يكون لدينا 700 ألف امرأة عاملة يواجهن صعوبة كبيرة في استمرار أعمالهن بسبب المواصلات، كما اتضح من النقاشات التي شهدها ''ملتقى عمل المرأة'' في الغرفة التجارية في الشرقية الشهر الماضي، فهذه واحدة من صور المأزق الذي نعيشه كمجتمع نتيجة عدم قدرتنا على حسم قضية قيادة المرأة للسيارة، ولحسن الحظ، أنها القضية الوحيدة التي ترك حسمها للمجتمع وإلا بقي كثير من قضايانا أسير الجدل الاجتماعي اللا منتهي، ولو استعرضنا أبرز الأطروحات تجاه هذه القضية نجد أنها مرت بثلاث مراحل مختلفة كان أشهرها التجمع الذي قام به 40 سعودية قبل 22 عاما في الرياض للتعبير عن مطالبهن الصريحة، وتعرضن جميعا لحملة وعقوبات معلنة وأخرى غير معلنة، وعلا صوت الوعيد والتهويل مما يحل بنا إن سمح للنساء بالقيادة تحت سلطة ''فتاوى'' مطلقة التحريم، ولم يتجرأ أحد على التفكير في مناقشة الأمر. وجاءت المرحلة الثانية بدخول أحداث الحادي عشر من سبتمبر وشهد مجتمعنا في ظلالها العديد من المراجعات لجملة من القضايا الدينية، والتربوية، والفكرية، والاقتصادية، ساهمت في تعرية الخطاب المتطرف، وكشف دور الإرهاب الفكري في التجييش والتأثير لمفاهيم مغلوطة من الشك والرفض والانغلاق. وكانت قضية قيادة المرأة للسيارة من القضايا التي طالتها المراجعات سرا وعلنا، وشهدت جدلا واسعا بين مختلف التيارات في صفحات الإعلام، وفي ملتقيات الحوار الوطني، وكان النقاش حولها أقل حدة مما سبقه في التسعينيات الميلادية، ولأول مرة نسمع من بعض العلماء كالشيخين المطلق والمنيع وعلى استحياء بعض رموز الصحوة مثل القرني والعودة بأن قيادة المرأة ليست محرمة شرعا، لكنها مرفوضة من المجتمع، واتسعت دائرة المؤيدين وكانوا أكثر إقناعا لخصومهم، بل إن الخصوم أنفسهم أصبحت لديهم قابلية لسماع آراء مناوئيهم رغم استمرارهم في الرفض. والمرحلة الثالثة نعيشها اليوم في ظل أجواء إيجابية من الانفتاح الفكري، وارتفاع سقف المطالب واتساع أجواء الحوار، بمساهمة واضحة لمواقع التواصل الاجتماعي في ترسيخ النقاشات الجادة والعقلانية لمعظم القضايا، توج هذا الطرح بمبادرات اجتماعية منظمة، وتواقيع شخصيات اجتماعية بارزة، وهناك من اتجه للقضاء، وأصرّ كثير من النساء على قيادة السيارات بأنفسهن، وهو أمر وضع الأجهزة الأمنية في حرج لعدم معرفتها بالشكل القانوني الصحيح للتعامل مع كل حالة هل تعتبر مخالفة مرورية؟ أم قانونية أم ماذا؟ والواقع الذي يؤمن به المتتبعون لحركة التطور والتغيير للمجتمعات أن المملكة اليوم ليست هي المملكة بالأمس، وأن قيادة المرأة للسيارة ليست سوى مسألة وقت، وستتحقق خلال فترة قريبة جدا، كما أن الأمر ليس بجديد في الأصل، فالإحصائيات غير الرسمية تؤكد وجود قرابة 50 ألف امرأة في قرى وهجر المملكة الشاسعة يقدن سياراتهن بأريحية تامة، وطالما أن الأمر واقع لا محالة فليس من الحكمة الاستمرار في هذا الجدل العقيم، تقود أو لا تقود، بل لا بد من تهيئة المجتمع عبر الخطوات العملية التي من الممكن القيام بها وتفويت الفرصة على المتربصين بإفشالها الفكرة في مهدها، ومن هذه الخطوات: - العمل أولا على إصدار القوانين والتشريعات الصارمة ضد محاولات التحرش والإيذاء التي قد تتعرض لها المرأة التي تقود سيارتها من قبل ضعاف النفوس أو بعض المتطرفين وإيقاع أقسى العقوبات والتشهير بمن يجرؤ على ذلك. - التنسيق بين دوريات المرور وهيئة الأمر بالمعروف لفرض مزيد من الانضباط أثناء قيادة المرأة وضبط المعاكسين والمتحرشين بمن يقدن سياراتهن بأنفسهن. - السماح بالقيادة تدريجيا وعلى مراحل زمنية تكون البداية بالمناطق الأكثر تقبلا ووعيا، واختيار المدن الصغيرة والهادئة، ما يجعل مهمة القيادة فيها مهيأة تماما ومن ضمنها الخبر والجبيل وبقيق وينبع. - يتم تعميم التجربة بشكل متدرج لاختيار مناطق كدرجة ثانية من القدرة على التعامل مع التدرج مثل جدة، مكةالمكرمة، الدمام، الأحساء، والمدينة. - يترك السماح للمرأة بالقيادة في المناطق الأكثر رفضا لأسباب اجتماعية في المرحلة الأخيرة. - وضع ضوابط كفيلة بمنح الترخيص للمرأة القادرة فعلا على القيادة كالسماح أولا للأكاديميات والطبيبات وسيدات الأعمال ومديرات المدارس والمعلمات، بالقيادة، ثم تحديد عمر معين للقيادة لا يقل عن 30 عاما. - السماح فقط بالقيادة داخل المدينة وفي الأوقات العادية. - السماح أيضا بارتداء النقاب لمن أرادت أو الاكتفاء بالحجاب الإسلامي الصحيح، الذي لا يشترط تغطية الوجه باتفاق المذاهب الأربعة. - بث حملة توعوية كبيرة في الجامعات والمعاهد والكليات ومختلف الجهات لتنوير المجتمع بالتعاطي مع هذا التغيير بما يليق بمجتمع متطور ومتحضر، والتأكيد على خطباء المساجد ووسائل الإعلام والجهات التربوية والتعليمية الأخرى بمساندة المرأة وعدم استغلالها في حالة تعرضها لمواقف صعبة أثناء القيادة. - لا يعني تطبيق التجربة بشكل تدريجي واختيار مناطق متعددة فرضها على الجميع، بل هو إجراء اختياري، فمن رغب فما عليه سوى التقدم لإدارات المرور لاستخراج ترخيص بذلك ومن لم يرغب فليس من حقه اتهام الآخرين والتشكيك في سلوكياتهم. وفي تقديري أنه باعتماد الخطوات السابقة نودع الجدل والخوف والقلق من تبعات هذا التغيير الذي جعلنا مثار دهشة شعوب العالم بتناقضاتنا الاجتماعية، وسنسخر يوما من رفضنا لها كما سخرنا قبلها من قائمة الممنوعات الشهيرة كتعليم البنات، جوال الكاميرا، الدش، الإنترنت، بطاقة المرأة، المجلات، كرة القدم، السياحة والسفر، واليوم الوطني.