الناظر في حال مصر الآن يجعله يوجه صيحة عالية لكل المصريين على اختلاف توجهاتهم التي فرقتهم: علماء، وساسة، ورجال ونساء وشباب، حتى أدخلوا الأطفال، الكل ليست له همة إلا أن ينصر ما يظنه ويراه هو وفصيله أو جماعته أو حزبه، أو من يثق فيه، أو يجتمع معه في بعض المصالح أياً كانت هذه المصالح، فنتج عن هذا عدة أمور، على رأسها أنه أصبح التمسك بالدين والأخلاق والآداب الإسلامية سبة وعار، وخراب، إلى غير ذلك من الاتهامات، والنقائص والمعايب، وكأن في غيرها الصلاح والنجاة والرفاهية!! فانظر في ذلك ما قاله كمال أبو عيطة عضو جبهة الإنقاذ، اليساري الاشتراكي الناصري وهو يعرض رؤيته ومطالبه:"نريد رفع حد أدنى للأجور، نريد حريات نقابية، نريد علاقات عمل عادلة، لو لم يتم تحقيق هذا الكلام، والله! والله لو بيحكمنا أنبياء أو ملائكة منزلين من السماء مش عايزنهم !!". كيف يظن هذا الرجل أن الأنبياء لا يحققون العدل بين الناس؟! ولا يسعني إلا أن أقول: إن هذا والله من أبطل الباطل وغاية الفساد، ولا نستطيع بحال من الأحوال أن ننجر إلى مجرد التلويح بذلك، كيف وربنا جل في علاه يقول:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى} [طه:123-126]. وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن من يترك اتباع هدى الله المنزل على أنبيائه، وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، على وجه الإعراض عنه، أو ما هو أعظم من ذلك، بأن يكون على وجه الإنكار له، والكفر به :{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، فالمعيشة الضنك، عامة في دار الدنيا، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه، من الهموم والغموم والآلام، التي هي عذاب معجل، وفي دار البرزخ، وفي الدار الآخرة، لإطلاق المعيشة الضنك، وعدم تقييدها. فقد جمع له بين عذاب الدنيا، وعذاب البرزخ، وعذاب دار القرار.{قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى} فكما عميت عن ذكر ربك، وعشيت عنه، ونسيته ونسيت حظك منه، أعمى الله بصرك في الآخرة، فحشرت إلى النار أعمى، أصم، أبكم، وأعرض عنك، ونسيك في العذاب. تترك في العذاب، والجزاء من جنس العمل. قال الإمام ابن القيم في "الوابل الصيب":"أعرض عن كتابي ولم يتله ولم يتدبره ولم يعمل به ولا فهمه، فإن حياته ومعيشته لا تكون إلا مضيقة عليه منكدة معذباً فيها. والضنك الضيق والشدة والبلاء. ووصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة، وفسرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ، والصحيح أنها تتناول معيشته في الدنيا وحاله في البرزخ، فإنه يكون في ضنك في الدارين، وهو شدة وجهد وضيق. وفي الآخرة تنسى في العذاب. وهذا عكس أهل السعادة والفلاح فإن حياتهم في الدنيا أطيب الحياة ولهم في البرزخ وفي الآخرة أفضل الثواب. قال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} فهذا في الدنيا، ثم قال:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فهذا في البرزخ والآخرة". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مختصر الفتاوى المصرية" وقوله تعالى:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} تشمل الكافر فله منها حق الوعيد، وتشمل المؤمن المرتكب الكبيرة فله نصيب من ضنك العيش بقدر إعراضه عن الذكر. ومذهب أهل السنة أن الشخص الواحد تجتمع فيه الحسنات والسيئات فيستحق الثواب والعقاب جميعاً". وقال في "مجموع الفتاوى":"فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم قد تضمن أنه أوجب عليهم اتباع هداه المنزل وهو الوحي الوارد على أنبيائه وتضمن أن من أعرض عنه وإن لم يكذب به فإنه يكون يوم القيامة في العذاب المهين وإن معيشته تكون ضنكاً في هذه الحياة وفي البرزخ والآخرة وهي المضنوكة النكدة المحشوة بأنواع الهموم والغموم والأحزان كما أن الحياة الطيبة هي لمن آمن وعمل صالحاً". فهل بعد هذا التحذير والوعيد والتهديد من رب العالمين لمن ظن أن من حقه أن يفصل بين أعماله وأفعاله، وأقواله، وبين أوامر ونواهي ربه جل وعلا بحجة أن سوف ينال التقدم، والتطور الجديد، ومسايرة ركب الحضارة، والتنوير والعولمة، والحصول على الحرية، والعدالة الاجتماعية، والعيش في كرامة، ورفاهية، في غير التمسك بهذه الأوامر والنواهي، كما تقدم غيرنا من بلاد الكفر وليس عندهم شريعة وهكذا نسمع ونقرأ ونشاهد!! نعم أن الحضارة المعاصرة جمعت بين نافع لا مثال لنفعه، وبين ضار لا مثال لضره. وحقيقة موقفنا من ذلك كله، كما أوضحه أهل العلم: هو أن نجتهد في تحصيل ما أنتجته الحضارة المعاصرة في النواحي المادية، وأن نحذر مما جنته هذه الحضارة من التمرد على خالق الكون جل وعلا، وما يخالف أوامر الله ونواهيه، فتصلح لنا الدنيا والآخرة. وهنا أنقل بعض ما قاله العلامة الشنقطي -رحمه الله- وهو يبين موقفنا من هذه الحضارة حيث قال:"وما أَنْتَجَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ من المنافعِ، وما جَنَتْهُ من المضارِّ نضربُ له في المناسباتِ مثلاً يصيرُ به المعقولُ كالمحسوسِ، مثالُ ذلك: هو أن رَجُلاً بَعِيدًا من العمرانِ، مُنْقَطِعًا في آخِرِ رَمَقٍ من الحياةٍ وَجَدَ ماءً عَذْبًا زُلاَلاً وَسُمًّا قاتلاً فَتَّاكًا، فحالُه مع هذا السمِ القاتلِ والماءِ العذبِ الزلالِ، حالُه لابدَّ أن تكونَ واحدةً من أربعِ حالاتٍ: إما أن يَشْرَبَهُمَا معًا، وإن شربهما معًا لم ينتفع بالماءِ الزلالِ؛ لأن السمَّ الفتاكَ يقتلُه، وإن تَرَكَهُمَا معًا انقطعَ عن الركبِ، وماتَ في الطريقِ. وإن شَرِبَ السمَّ وتركَ الماءَ فهذا رجلٌ أحمقُ أهوجُ لا يُبَيِّنُ نَافِعًا من ضَارٍّ، وإن كان رجلاً عاقلاً شَرِبَ الماءَ وتركَ السُّمَّ. فالحضارةُ الغربيةُ فيها ماءٌ عذبٌ زُلاَلٌ، وفيها سُمٌّ فَاتِكٌ قَتَّالٌ. أما ما فيها من الماءِ الزلالِ: فهو ما أَنْتَجَتْهُ من القوةِ الماديةِ؛ والقوةِ التنظيميةِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ. وأما ما فيها من السمِّ الفاتكِ القتَّالِ: فهو التمردُ على نظامِ السماءِ، والطغيانُ والعصيانُ لخالقِ هذا الكونِ جل وعلا، والإفلاسُ الكليُّ في الآدابِ الروحيةِ السماويةِ. فعلينا معاشرَ المؤمنين أن نَتَنَبَّهَ لهذا، ونفرقَ بين السمِّ والماءِ، فنأخذ من الحضارةِ الغربيةِ ما اسْتَطَعْنَا من قوتِها الماديةِ، ونجتنبَ كُلَّ التَّجَنُّبِ، ونتباعد كُلَّ البعدِ عن سُمِّهَا الفتاكِ القتَّالِ، مما جَنَتْهُ من التمردِ على نظامِ السماءِ، ومعصيةُ خالقِ هذا الكونِ، والانحطاطُ الخلقيُّ، وضياعُ الأخلاقِ والقيمِ الروحيةِ الإنسانيةِ. والذي يُؤْسِفُ كُلَّ الأسفِ أن أغلبَ - إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ - مَنْ يُحَرِّكُونَ الدَّفَّاتِ ربما أخذوا منها ضَارَّهَا من الانحطاطِ الخلقيِّ؛ والزهد في الإسلامِ، وقطع الصلةِ بالله، وعدم صلةِ السماءِ بالأرضِ، في الوقتِ الذي هم فيه مفلسونَ كُلَّ الإفلاسِ من مائِها الزلالِ، ومنافعِها الدنيويةِ، فَعَكَسُوا القضيةَ والعياذُ بالله. مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالإِفْلاَسَ بِالرَّجُلِ فَعَلَى المسلمِ أن يفرقَ بين ما يَضُرُّ وما ينفعُ، ويفرقُ بين ضارِّ الحضارةِ الغربيةِ ونافعِها، ويستفيدُ من نافعِها من القوةِ الماديةِ والتنظيميةِ، ويحذرُ كُلَّ الحذرِ من ضارِّها من الانحطاطِ الخلقيِّ، والتمردِ على نظامِ السماءِ، ومعصيةِ خالقِ هذا الكونِ؛ لأنَّ الإنسانَ في هذه الدنيا إذا فَقَدَ صلتَه بخالقِ السماءِ الذي فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وجعلَ له فيها النورَ، وأبدعَه من غرائبِ صنعِه وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، مَنْ خَسِرَ صلتَه بالله خَسِرَ كُلَّ شيءٍ، ولم يَبْقَ له في الدنيا شيءٌ، فَعَلَى المسلمين أن يحافظوا على تراثِهم الروحيِّ، وآدابِهم السماويةِ من طاعةِ خالقِ هذا الكونِ، في الوقتِ الذي هم فيه ينتفعونَ بالمادةِ والقوةِ. ونحنُ نُبَيِّنُ لإخوانِنا مِرَارًا أن دينَ الإسلامِ يأمرُ بالمحافظةِ على التعاليمِ السماويةِ والآدابِ الروحيةِ، ويأمرُ بالتقدمِ الدنيويِّ في جميعِ الميادينِ، حتى ولو كان ذلك التقدمُ الدنيويُّ العقولُ الذي أَنْتَجَتْهُ: عقولُ كفرةٍ فجرةٍ، وكذلك كان سيدُ البشرِ، مُرَبِّي هذا الْخَلْقِ، ومبينُ الطريقِ له- نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان كذلك يفعلُ". بأوامر ربنا عز وجل، وننتهي عن نواهيه، ونسلك الأسباب المادية والقوة، على ما سبق ذكره وعليه فلا بد لنا أن نأتمر. فيجب على كل عاقل مسلم في مصر أن يعلم أن أعظم الأمور هو الحفاظ على الأصل الأصيل للمسلمين هو حفظ الدين المتمثل في حفظ العقيدة من غوائل الشرك والبدع، لذلك قال العلماء: لأن أمر العقيدة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه، فمصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح لما فيها من حفظ مصالح كثيرة ودرء مفاسد كثيرة. ففيها حفظ الأنفس والأموال والوحدة والأخوة بين الأمة، ودرء أضداد هذه الأمور من المفاسد التي يجر إليها التفرق والاقتتال. وعليه فإن عقلاء مصر عليهم: أولاً:أن يصبروا على ما هم فيه من ضيق في نواحي كثيرة، وأن يجعلوا نصب أعينهم رضى الرب سبحانه وتعالى. ثانياً: ألا ينقسمون ويتفرقون بسبب التعصب لجماعة أو حزب مهما كان توجهه، أو لتحقيق مصالح لفئة دون مراعاة للمصلحة العامة من استقرار الأمن ونحو ذلك. ثالثاً: عليهم الحرص على ألا يقتتلون فيما بينهم، أي بين مؤيدي فلان، وبين مؤيدي فلان. رابعاً: أن ينبذوا من ظهر منه عدم الحرص على استقرار أمر بلدهم. حتى لا يكنوا أداة في يد أعدائهم في الداخل أو الخارج، لهدم بلدهم. خامساً: ألا ينجروا بين الحين والآخر إلى دعوات تشتت أمرهم، فمرة لجمع توكيلات لنزول الجيش، وبعد تبين عدم جدوها، يتم التلويح بثورة الجياع، ثم الدعوة إلى تمرد الشرطة، ثم أخيراً دعوة جمع توقيعات لسحب الثقة من رئيس الجمهورية، فليحذر شعب مصر من الانسياق وراء هذه الدعوات المتتالية، التي لا يمل أصحابها. وفي كل مرة تجد نفس الوجوه، تقول: هذه المرة هي القاضية، فأصبح الشعب حقل تجارب. سادساً: أن يحرص العلماء والدعاة إلى الله على تعليم الناس أمور دينهم، ليس من خلال القنوات الفضائية، بل لا بد من الرجوع إلى المساجد. سابعاً: على الدعاة الذين انشغلوا بالعمل الحزبي السياسي، أن يتركوا العمل الحزبي السياسي، ويعودوا للتفرغ للدعوة، فإن أردوا إلا العمل السياسي، فليتفرغوا له؛ لأننا رأينا تضارب كبير بين ما يتعلق بالتصريحات الحزبية، والفتاوى الشرعة، وهذا لا ينكره إلا مكابر. ثامناً: على العاملين بالعمل السياسي من جماعات الدعوة، ألا يلوا أعناق النصوص، أو أن يوظفوا مواقف السيرة لتمرير رؤية سياسية. تاسعاً: على من يتولون أمر شؤون البلاد الآن أن يكونوا أكثر وضوحاً في سياساتهم، وأن يقبلوا التعاون مع من يريد خير البلاد والعباد، وأن يبتعدوا بالكلية عن القاعدة اليهودية الغائية والماكيافيلية:"الغاية تبرر الوسيلة"، وسياسة:"من ليس معنا فهو ضدنا". هذا ما أردت بيانه. فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي. سائلاً المولى سبحانه وتعالى أن يأخذ بأيدينا ويهدينا إلى الحق الذي اختلف فيه الناس، إنه يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم. والحمد لله رب العالمين.