الزمن القادم هو زمن صراع حاد بين الشرق والغرب، وعليه فإن القادر على التحكم بمناطق الثروات (الخليج العربي/ أفريقيا) هو القادر على استلام زمام الأمور العالمية حين كان العالم يعيش تحت الحرب الباردة، كانت تحكمه القوى المتوازنة التي تجعل خيار الانفراد بالقرار العالمي صعبا للغاية، والدول تتوجه ذات اليمين وذات الشمال بما تمليه مصالحها، وحين سقط الاتحاد السوفيتي خرج علينا مفهوم "النظام العالمي الجديد" الذي دشنه "بوش الأب" في كلمة مشهورة، ورأت أميركا أن (القرن الجديد) سيكون قرناً أميركياً بامتياز، وكانت العولمة الأميركية تستخدم أذرعة فتاكة لفرض الهيمنة الأميركية على العالم كله بعد أن انزاح غريمها الخطير الاتحاد السوفيتي وشموليته الاشتراكية.. ومنذ تلك اللحظة بدأ الأميركان للاستعداد ل "دمقرطة" العالم بناء على الرؤية الرأسمالية الليبرالية، وفرض الأنماط الحضارية الغربية على الناس، متناسين الفروقات الحضارية الجوهرية، وعازمين على استخدام العصا والجزرة في فرض أجنداتهم الجديدة التي تخدم توسعاتهم ومصالحهم في الدرجة الأولى.. وما الشعارات البراقة التي يستخدمونها إلا اختراق للشعوب من داخلها ليسهل عليهم تمرير ما يريدون بلا اعتراض أو مناكفة. شهدت فترة "بيل كلينتون" هدوءاً في العلاقات وليونة في السياسة الأميركية، إلا أن اليمين المتطرف كان يحرض "بيل" على البدء بتنفيذ المشروع الغربي، حتى إن "برنارد لويس"، وهو عراب المشروع من جانبه النظري، كان يحث الإدارة الأميركية في فبراير من سنة 2000 على توجيه ضربة هيدروجينية للعراق لإسقاط نظام صدام حسين وتعميم النموذج في منطقة الشرق الأوسط، ولكن الحدث الفاصل الذي سرّع بالمشروع هو "هجمات الحادي عشر من سبتمبر" التي دشنت بداية الحقبة الجديدة، وخلق كافة المبررات للغزو والتوسع والترتيب للمنطقة كلها. وقد ظهرت في عهد "بوش الابن" مصطلحات مهدت لهذه الحقبة الجديدة ك(الشرق الأوسط الكبير)، و( الشرق الأوسط الجديد)، و(الفوضى الخلاقة)، وطرح مبادرة "كونداليزا رايس" لتغيير حلفاء أميركا في المنطقة حتى تستطيع تحقيق الأجندة الجديدة التي تتماشى مع مصالح أميركا، وخاصة حفظ أمن إسرائيل، وتعميم النمط الغربي في الدول العربية، وترتيب منطقة الشرق الأوسط من جديد من خلال خلق حالة من الفوضى "الخلاقة" التي تؤدي إلى استلام زمام إدارة الأمور بعد هدمها وتمزيقها، وهو الأمر الذي يشاهده الناس بعيونهم في هذه الأيام العصيبة. وقد يطرح متسائل سؤالا ملح الإجابة: ما هدف أميركا من كل هذا؟ لماذا تكلف نفسها عناء التغيير المكلف في منطقة ملتهبة مثل الشرق الأوسط؟ وما المصالح التي سوف تجنيها في المنطقة؟.. وهي بلا شك أسئلة منطقية وحساسة، وإجابتها لا يحتملها مقال صحفي، ولكن هناك قضايا كبرى أدركتها السياسة الأميركية، ومن أهم تلك القضايا: - الزمن القادم هو زمن صراع حاد بين الشرق والغرب، وعليه فإن القادر على التحكم بمناطق الثروات (الخليج العربي/أفريقيا) هو القادر على استلام زمام الأمور العالمية، وخاصة أن أميركا أدركت النهضة التي تشهدها "الصين"، والتعافي الذي تشهده "روسيا"، وإمكانية قيام أحلاف جديدة تقاسمها ما تريد التفرد به، خاصة حين أدركت أن الشركات الصينية والروسية قد وصلت للتنقيب عن الثروات إلى "ليبيا" القريبة من أوروبا وإلى حوض "المتوسط"، وهو أمر أقلق الغرب بشكل رهيب، فكان من ضمن الأهداف "كنس" هاتين الدولتين من الشرق تجارياً وسياسياً واقتصادياً، وهذا ما تحقق بعضه في أحداث ما يسمى "الربيع العربي". - بعض الحكومات التقليدية في الشرق الأوسط لم تعد قادرة على تحمل أعباء المرحلة القادمة، وقد وتّر سلوكها العلاقة بين الشرق والغرب، ولتحسين الصورة الأميركية فإن عليها أن تفرق بين الجماعات الراديكالية القتالية التي تعامل بالمثل، وبين جماعات الإسلام السياسي البرجماتية القادرة على التعاطي مع الغرب في سبيل وصولها للحلم الكبير "حكم المنطقة"، بل وإعطائه كل الضمانات والتطمينات لحفظ مصالحه في المنطقة، وهو ما تم فعلاً في عدد من الدول العربية. - إعادة رسم خارطة المنطقة بما يتوافق مع طموح إسرائيل وأميركا في تقسيم المقسم، وإضعاف الضعيف، وتشتيت المشتت، وعليه فلا بد من إنجاز "تقسيم العراق" على أساس عرقي وطائفي، و"لبننة سورية" على أساس عرقي طائفي، وإدخال مصر في دوامة من المشكلات التي تجعلها تغرق فيها لخمسين سنة قادمة، وقد قال "ريتشارد بيل" في سنة 2003 إن "العراق هدف تكتيكي، ومصر الجائزة الكبرى (أي لإسرائيل)، ولن يتم ذلك إلا بتوتير العلاقات بين البلاد وحكامها وإحداث التغيير السهل الذي لا يكلف أميركا مليارات كما كلفها ذلك في العراق، وهو ما صرح به "وولسي" رئيس المخابرات الأميركية في سنة 2006. - إعادة ترتيب القوى في منطقة الشرق الأوسط وتعيين الشرطي الجديد، وهذا حلف جديد يرشح "إيران" لتكون رائدة فيه، وإن شئنا قلنا "الشيعة" بدلاً من "السنة"، لما يتميز به هؤلاء من ميزات أفضل، مثل البرجماتية السياسية القوية، وانتفاء فكرة الصراع الحضاري مع الغرب، وانعدام فكرة "الجهاد" ضده، ووجود المرجعيات التي تحكم تصرفات ملايين من البشر، بخلاف السنة الذين لا مرجعية ثابتة لهم، وكانت تجربة العراق وأثر الفتوى في إخماد ملايين الناس درساً للغرب، وقد برز هذا التحالف في حربي أفغانستان والعراق ودور إيران فيهما حتى سلمت أميركا "العراق العظيم"، بوابة الشرق العربي، وحاميها لإيران، وهناك استعداد تام لتسليم كل المنطقة لإيران على غرار العراق. - القضاء على الدول المترهلة التي لا تستطيع تحقيق القفزات التنموية من خلال تصغير أحجامها، والاستفادة من الأيدي العاملة المعطلة في منطقة الشرق الأوسط، وتهيئة المكان للشركات متعددة الجنسيات التي تضع عيونها على هذه الأيدي العاملة التي يمكن استخدامها في إعادة عصر استعماري جديد يقوم على مبدأ (الإنتاج والاستهلاك) في آن واحد، وهذا هو هدف الضرب على وتر توزيع الثروة العادلة في المنطقة. هذه بعض الأهداف الكثيرة جداً والتي ترسم خريطة المصالح الغربية في المنطقة العربية، حيث تسعى أميركا جاهدة إلى إنجاز مشروعها، ولن يستثنى من ذلك أحد إلا حين نمتلك الوعي التام في مواجهة الخطط، وقطع الطريق عليها، فهي تخطط ويمكن إفشال المساعي، وعليه فإن استراتيجية أي مواطن سعودي لابد أن تكون في حفظ الأمن والاستقرار وقطع كل الذرائع التي تؤدي إلى الاختراق، والله المنجي والمعين. وللحديث بقية.