يحقق السعوديون والفتيان، والفتيات منهم تحديداً، نسبة عالية في شراء الكتب، هذه الظاهرة ستربك المقولة المسيطرة منذ القدم بأننا شعوب لا تقرأ، فنتيجة لهذا التدفق المحموم من الشباب، كما رأينا في معرض الرياض الدولي للكتاب، ستضاعف من معدلات النمو القرائي لدى السعوديين، ما قد يُحدث نقلة نوعية في وعي الأجيال المقبلة لا يمكن أن يتخيلها العقل، هذا حقيقي جداً في ما لو غصت أجنحة دور النشر الكبيرة والعريقة بهؤلاء الشباب، وفي ما لو تم تحريضهم أو توعيتهم في ما يفتقرون إليه من كتب رصينة وذات مردود ثقافي حقيقي، لا أن يتركوا هملاً لينساقوا خلف الناعقين الجدد الذين تخللوا وسائط الاتصال الجديد من «تويتر» و«فيسبوك» للوصول إليهم والاستحواذ على عقولهم المتفتحة على كل ما يكتب من تغريدات حتى لو كانت مبتذلة، هذا الإقبال وبهذه الطريقة التحريضية الفجة لن يغدو ذا مردود معرفي حقيقي مادامت وجبتهم المعرفية ذات قيمة معرفية فقيرة، كأي وجبة سريعة من منتجات المطاعم العالمية. بهذا هل نستطيع القول بأن القراءة لدى الشباب أصبحت ديدناً مثلهم مثل شعوب الأرض المتحضرة، لأن الإقبال على شراء الكتاب يفوق كل المعدلات العالمية فحسب؟ هل هذا مؤشر على التحول والتبدل في مستوى التفكير والعقل السعودي ليزيل معه كل ما كان يتردد بين الألسن المتذمرة من ضعف الوازع القرائي والمعرفي لدى الشباب؟ هل يمكن اتخاذ الأرباح التي تحصدها بعض دور النشر المستحدثة أخيراً في غفلة من الزمن التي استطاعت أن تتفوق على خبراء النشر العتيدين في العالم العربي وحتى الغربي كمؤشر حقيقي على هذا هو التحول المطلوب؟ في معرض الرياض الدولي للكتاب رأينا الحشود الشبابية الكبيرة التي تتزاحم لاقتناص فرصة شراء كتب بعينها، ينبعث هؤلاء كالجراد في أوقات محددة، وحول دور نشر معينة من دون غيرها لتلقف إصداراتها، بما يشبه الغواية، وتترك الدور العتيدة بما لديها من إصدارات معرفية حقيقية ورصينة، ثم تسأل هل قرأوا لهؤلاء الكُتّاب قبلاً فتتفاجأ بأنهم كتاب شباب صغار غير معروفين كتبوا للمرة الأولى، وإذا نظرت إلى بضاعتهم ستجدها مزجاة، ولكن حينما تكتشف اللعبة ستلتمس العذر لهؤلاء الشباب لشرائهم هذه الوجبة، أعني الكتاب؟ بعض هذه الكتب وصلت طبعاتها إلى 50 طبعة، أحد هذه الإصدارات هو مجموعة مقالات صحافية كتبت في فترات متفاوتة في مواضيع شتى، طبع منها الطبعة ال40، فلو افترضنا أن الدار تطبع لكل طبعة ثلاثة آلاف نسخة النتيجة 150 ألفاً، بمعنى: حصدت الدار من الكتاب الواحد مليوناً ونصف المليون، وهذا أمر مستحيل طبعاً، فدار النشر ليست مطاعم تقدم وجبات سريعة «ضارة». أحد المتاجرين بالثقافة قدم اختباراً ناجحاً لشريحة المستهلكين الذين يتجه إليهم بمنشوراته، إذ قدم لهم كتاباً على بياض، وباعه عليهم بما يشبه «الاستحمار» لهم، فتهافت عليه الشباب ليجدوه ورقاً أبيض لم يطمثه قلم من إنس ولا جان، هذه التجربة كشفت له جلياً نوعية هؤلاء الناس المصنفين باعتباراته «غوغاء» وبعبارة أقسي «أغبياء»؛ ومنها عرف طبيعة الأرض التي سيمشي عليها، لذلك ومن أجل هؤلاء «المستحمَرين» واستغلالاً لسذاجتهم ولغياب الجهات المسؤولة عن التوجيه الثقافي تعمل الدور الاستهلاكية بحملات مكثفة عبر «تويتر» و«فيسبوك» بلعبة شبه ألعاب «بلاي ستيشن»، إذ تخصص مروجين يكتبون بأسماء مؤلفين مجهولي الهوية لتخلق لهم أسماء ويُبنى لهم صيت كبير قبل صدور الكتاب، وعبر المقاطع السريعة التي تنثر طعماً لاصطياد الأسماك الصغيرة، ولتكن الأسماك الصغيرة التعبير الجيد عن زبائن هذه الدور ذوي الثقافة السطحية المستقاة من تغريدات «تويتر» الهشة، وساعة تنطلق فعليات البيع تأتي بما يشبه الألعاب النارية ممتعة للنظر وذات عوائد كبيرة لأسياد الحفلة اللامعين. في المعرض سألت بعض الفتيات وآخرين من الشباب كيف علموا بالإصدار، ومن الذي دفعهم لشرائه، فكانت الإجابة بتلكؤ على سؤال محرج واحد هو: من «تويتر» و«فيسبوك»، ومنهما يتفشى الكتاب ليطبع منه وهماً أو زعماً 50 طبعة، حتى ولو كان الإقبال على الكتاب شديداً، كما نرى، فنحتاج إلى منطق وعقل كافيين لنصدق عدد هذه الطبعات، إلا إذا كان الدور بالطريقة الدعائية الترويجية نفسها تقوم بترقيم كل فرز مطبعي على أنه طبعة جديدة، لأننا حتماً لا نقرأ ل «ماركيز»، أو «كويلو»، أو حتى «مستغانمي» بوصفها علماً روائياً بارزاً في العالم العربي، وحظيت روايتها بإقبال كبير من كل الأطياف في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك لم نرَ حتى اليوم سوى الطبعة الأولى من روايتها «الأسود يليق بك»، فمن نصدق؟ ناشري الثقافة الاستهلاكية، أم ثقافة الوهم المحلية، أم دور النشر المحترمة؟ أخيراً إليكم هذه الحكاية التي سمعتها من الصديق الكاتب محمد القشعمي، يقول: كان الناشران هشام ومحمد علي حافظ في سبعينات القرن الماضي يديران صحيفة «المدينة» للنشر والتوزيع عقب انتقالها إلى مدينة جدة، وكانا يقومان عند منتصف النهار بجمع الصحيفة وإحراقها، ويكتبون في العدد التالي أن الجريدة نفدت، ليحققا بذلك كسباً معنوياً للصحيفة، ويدفعا عنهم ملامة سوء التوزيع، وهذا ما كان يفعله الأخوان مصطفى وعلي أمين في صحيفة «الأخبار»، بمعنى أن اللعبة قديمة، ربما تطورت طريقة الحرق، فالحرق اليوم يتم بعمليات التسويق المكلفة المركزة فقط على السوق الخليجية، وتحديداً السوق السعودية الأكثر كثافة، أما العالم العربي فليس لهذه الدور حظ أو نصيب فيها، المضحك في هذه الطبعات، وكأن المريب يقول خذوني، هو أن رقم الطبعة أكبر من اسم المؤلف والدار، فكأنك لا تشتري الكتاب بل رقم الطبعة، بدافع الفضول ولا تدري أنك تقع في مصيدة الأرقام. أخيراً، يتحمل تبعات هذه الفوضى، أولاً: الجهات المسؤولة عن الثقافة في البلد، ثانياً: كان من الأحرى بالعقلاء رفع دعوى قضائية على مؤلف الكتاب الفارغ الذي لا يمثل سواه، بوصفه رد اعتبار لعقول الناس، ثالثاً: إياكم وأن «يستحمركم» أحد حتى ولو باسم الثقافة، وعليكم البحث عن الكتب القيمة، رابعاً: التغريدات لا تصنع كتاباً ولا مثقفين بل أضغاث أحلام.