تناقلت مواقع النت والصحف والفضائيات ما قاله الدكتور عيسى الغيث عضو مجلس الشورى وقاضي محكمة الاستثمار العربية وأستاذ الفقه المقارن، عن نيته مقاضاة أحد الكُتاب بعد نشره تغريدات على حسابه الشخصي في تويتر، ما اعتبره الشيخ الغيث تهجماً شخصيا عليه.. وقال الشيخ الغيث، إن رفعه للقضية ليس لمجرد الحق الخاص، “وإنما لنسن سنة حسنة في سبيل مكافحة هذه الظاهرة المنكرة بتويتر". بطبيعة الحال هذا من حق أي إنسان يرى أنه تعرض للإساءة الموجبة للمقاضاة، ومن حقه أيضاً أن يشجع الناس المقهورين على المطالبة بحقوقهم.. لكن ثمة معضلة عالمية في مثل هذه الحالات بأنه كثير ما تتحول إلى صالح الذي أطلق الاتهامات من ناحية الشهرة، مقابل عقوبة بسيطة غالباً ما تكون غرامة مالية صغيرة تُدفع على الماشي.. فما هو الأجدى أن تدعه أم تقاضيه؟ إن تركته سيحصل تمادي وتستباح حقوق كثيرين، وإن قاضيته سينال ما يريده من الشهرة! ومعضلة أخرى في أن هذا النوع الجديد من الدعاوى لو اجتمعت محاكم العالم كلها فلن تغطيها.. ففي كل لحظة يتأذى بشر بلا دليل غير الكلام الوهمي، ويتم تحريف نص في غير سياقه، وتتم سرقة (عيني عينك) لإميل غافل بريء تصدر إدانته جماهيرياً وربما رسميا! ليس في تويتر بل في كل أمهات المواقع الإنترنتية كيوتيوب وجوجل وياهو.. المسألة صارت “عادي" بسبب شيوع الظاهرة، مثل حوادث السيارات التي يذهب فيها ضحايا كثر! اللعبة صارت مألوفة عالمياً حتى في أشهر الفضائيات العالمية: يطلق شخص مغمور فقاعة إعلامية، وقد يكون مشهوراً لكنه لا يستطيع الاستمرار إلا عبر هذه الفقاعات.. ثم من غد ينهمر سيل من المقالات وحلقات الفضائيات تتناول ما قاله.. كثير منها تهاجمه وقليل تدافع عنه، لكن التي تهاجمه هي من ترفع صيته وتضعه في دائرة الشهرة! أما تويتر “السعودي" الذي يتصدر القائمة العربية بلا منازع (تقرير كلية دبي للإدارة الحكومية)، والذي صار من أكثر الساحات المليئة بالفقاعات والاحتقان والاستقطاب الحاد في القضايا الحساسة دينياً وسياسياً.. فعليك إن رغبت المشاركة في اللعبة ألا تكون معتدلاً إذا أملت أن يُلتفت إليك، وألا تكون عميقاً فلا وقت للتفكير لمن يتلقى آلاف التغريدات كل لحظة.. وقد سبقك في اللعبة أسماء لامعة دينية وثقافية. وكثير من هذه الأسماء ركزت جهدها الإنترنتي في تويتر بعبارات مختصرة فاقعة وجذابة تدغدغ المشاعر، جعلت تويتر أول منصَّة انطلاق صباحية لمتلقي الإنترنت في السعودية، وجعلت المراقب الإعلامي يلتفت إليه قبل أن يلتفت للمشهد السعودي الواقعي، مما أفضى بالإعلام الافتراضي أن يقود الإعلام التقليدي والثقافة وليس العكس.. لقد أصبحت الثقافة السائدة إعلامية بالدرجة الأولى كما يقول المفكر الفرنسي ايمانويل لوميو، حتى قيل إن الإعلام هو السلطات الأربع، بدلاً من المقولة المعروفة “الإعلام هو السلطة الرابعة". وهذا الإعلام صار خاضعاً للإعلان التجاري، لتغدو بعدها الثقافة كلها خاضعة للتجارة وللإعلان. وتلك الأخيرة تتطلب الإثارة ولفت الانتباه وفقاً لقاعدة جديدة.. أما القاعدة القانونية المعروفة في تقاليد الإعلام بعدم تجاوز الآراء والتحليلات حدودها في الإساءة للأشخاص.. والاتهامات يجب أن تكون مستندة على وثائق واقعية، فتلك زمانها ولى! وصار من يخترق هذه القاعدة ترتفع أسهمه إعلامياً، والقانون أصبح متفرجاً في أغلب الحالات. ويتم الآن إعادة وضع القواعد الإعلامية وفقاً لنمط “الأكثر شعبية" الذي هو بدوره خاضع للإعلان التجاري.. فجوهر المسألة هي عملية التسويق التجاري. خذ مثلا ما روجه الكاتب الأمريكي مالكوم جلادول في كتابه المشهور “نقطة التحول"، حاصراً الجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية للناس في المسألة التسويقية.. وصاغ ثلاثة عوامل تسويقية لجذب الجمهور إلى بضاعتك الإعلامية أيا كانت ثقافية، فنية، أدبية، سياسية. هذه العوامل هي: عامل الشكل المؤثر: أي شيء يحبه المستهلكون؛ عامل اللصق بالذاكرة: أي شيء يلتصق بذاكرة المستهلك؛ عامل قوة السياق: أي شيء يناسب السياق المكاني والزماني والملابسات المحيطة بالوضع. الآن يتم إعادة تعريف الإعلام والثقافة وفقاً لقاعدة “الأكثر شعبية" ولا علاقة بالجدارة أو الإبداع بل لا علاقة للحقيقة ولا التوثيق في هذه القاعدة. لذلك نرى في كافة مواقع النت عبارات: الأكثر مشاهدة.. الأكثر إرسالاً.. الأكثر تعليقاً.. إلخ، باعتبارها مقياس للنجاح. تلك مقاييس الإعلان التجاري وليست مقاييس الجدارة ولا المصداقية ولا الإبداع.. ليصبح الكاتب الناجح هو الأكثر لفتاً للأنظار بأي طريقة كانت من طرق جلادول أو غيرها.. وطالما أن الإعلان التجاري هو المحرك الأساسي للإعلام، فهناك إعادة تعريف شاملة ليس للإعلام. وليس هذا فحسب بل إعادة تعريف للإنسان وقيمه وأفكاره، فكلها أصبحت برسم البيع لثقافة الإعلان الإنترنتية التجارية.. وهنا يتم تسليع كل الأشياء وتحويلها إلى بضاعة حتى عواطف الإنسان تعرض كبضاعة في اليوتيوب وتويتر والفيس بوك.. لتصب في النهاية لخدمة الإعلانات.. نعم الإنترنت جعل الحياة أسهل وأسرع وأعلى كفاءة وأكثر متعة.. فلا أحد يمكنه إنكار إيجابياته العظيمة. المشكلة ليست بالإنترنت، بل بطريقة التعامل معه. ففي بدايات أية تقنية جديدة يتم التعامل معها وفقاً لثقافة مؤسسيها. وفي بداية الإنترنت كان مؤسسوها الأمريكان ومثقفوهم من دعاة العولمة الرأسمالية ومروجي القيم التجارية، وهذا جعل طبيعة تعاملنا معه بهذه الطريقة. لقد روج هؤلاء لحتمية القيم التسويقية التجارية التي ستكتسح مئات العالم وتكون بوصلة توجهه. وليس ذلك فقط، بل عرَّفوا حياة الإنسان كلها كملازم للمعنى التجاري، مما يرتبط معه إعادة القيم الإنسانية وفقاً للمفهوم التجاري.. وهكذا يحصل الآن! قبل مجيء الإنترنت، كان الواقعي هو الذي يصادق على الإعلام، الآن صار الإعلام الافتراضي هو الذي يصادق على الواقعي. في بدايات الإنترنت (أواخر التسعينات) خلص المفكر الأمريكي كيفن كيلي إلى أن هذه التكنولوجيا لن تميز بين الحقيقي والتمثيلي، ولن يصبح هناك فرق واضح بين الواقع والخيال، وسيحصل خلال العشرين السنة القادمة تهجين بين الخيالي والوثائقي لخدمة التجارة.. أليس هذا ما يحصل الآن؟ أليس هذا ما يفعله تويتر “السعوديين" بكل جدارة، حين يصدق أناس سعوديون أن شخصية ما يصل عدد متابعيها للملايين بينما أغلبها “بيضات" لا تفقس إلا وهما!