فهد إبراهيم الدغيثر - الحياة اللندينة نخطئ كثيراً عندما نظن بأن التربية في المنزل أو المدرسة وحدها تكفي لتهذيب الفرد وتجنبه الوقوع في التجاوزات والأخطاء ونتوقف عند ذلك... التربية ممارسة مستمرة تبدأ في البيت والمدرسة، نعم، لكن مسؤوليتها تنتقل إلى الدولة في ما بعد في الأماكن العامة وإلى رب العمل في أماكن العمل، إذاً فالتربية ممارسة مستمرة لا تنتهي أبداً ولا حتى مع التقاعد. الكثير من التذمر الذي يعترينا اليوم بسبب سلوكيات الفرد السعودي أتى بسبب غياب دور الدولة في إكمال مسيرة التربية والتهذيب. إكمال مخطط «بناء الإنسان». اكتفينا بتعليم الطالب أهمية الانضباط وعاقبناه بخصم الدرجات في المدرسة عندما لا ينضبط، لكن ما الذي فعلناه حيال غياب الانضباط عن الموظف أثناء تأديته لعمله؟ هل تتم معاقبته بشكل رادع، كما كنا نعاقب غياب الطالب أو تأخره في الصباح؟ ما الذي نفعله مع السائق المتهور الذي أصبح يفتقد لأدنى درجات الذوق ويضع مقدمة سيارته أمامك ليخترق الطابور من دون أي خجل؟ هل حررنا مخالفة واحدة فقط لهذا النوع من قلة الحياء؟ هل حررنا مخالفة واحدة لراكب عربة قذف بعلبة المشروبات الغازية من نافذة السيارة؟ ما الذي فعلناه للتاجر الذي يستخدم «الوانيت» المكشوف لنقل البضائغ الغذائية المجمدة في عز الصيف، ومع زحام الطريق والتوقف الطويل؟ هل أقفلنا متجره ولو ليوم واحد؟ ما الذي فعلناه لتاجر البقالة الذي لا ينظف أرضية المحل أبداً؟ أو من يبيع قطع الغيار المزيفة؟ أو من يشهد شهادة الزور في تعريفه لامرأة لا يعرفها أمام كاتب عدل؟ هل استمر؟ توقف هذا الخط الإنتاجي لبناء الإنسان المسؤول وضعنا في مكان لا نحسد عليه، وأصبحنا نعاني من الفوضى في الغالب الأعم من سلوكياتنا، والفوضى لا تقتصر نتائجها السيئة على الشخص الفوضوي فقط بل إنها تكلف الدولة كثيراً في بنود الصيانة والصحة، وتسهم مباشرة في تعطيل عجلة التنمية، وتكرس لهبوط مستويات الخدمة، كما أن غياب السلوك المنظبط، وتحول عدم الانضباط إلى ظاهرة دفعت وتدفع الأنظمة والتعليمات إلى الأدراج والتخوف من تطبيقها خشية أن يتوقف العمل بشكل كامل. كلنا يتفق اليوم بأن الفساد لدينا أصبح ظاهرة، لكن كيف لا يصبح ظاهرة ونحن غيّبنا التربية والتهذيب والعقاب، ولعقود طويلة وليست لفترات وجيزة متقطعة؟ الفساد أيها السادة نتيجة حتمية لوجود بيئة لا تعني بالمراقبة ولا تبذل أي جهد للكشف عن الرشاوى، ومثلما نعاني من مرض السكر بسبب غياب الوعي، فنحن نعاني من الفساد بسبب غياب العقوبات. في نواحي التنمية البشرية والاقتصادية ترددنا كثيراً في حسم موضوع الاختلاط، ولم نكتشف عواقب هذا التردد حتى وصل عدد العاطلات عن العمل إلى مليون امرأة، اليوم وكمجتمع نخوض في جدل لا يتوقف عن تحليل أو تحريم توظيف المرأة... تأخرنا في إنزال العقوبة على المتحرش جنسياً وألقينا اللوم على المرأة «الضحية»، ونتيجة لذلك أصبح الشاب السعودي يرى التحرش أمراً طبيعياً... وضعنا ملف قيادة المرأة لسيارتها في الأدراج، ونعاني اليوم من غياب قرار الحسم، وها نحن نكتشف كم هو مكلف ذلك، خصوصاً في غياب النقل العام المحترم، الذي هو الآخر تأخر أكثر مما يجب. من السهل على أي متابع أن يكتب ويؤلف الكتب عن وصف الحال التي نعيشها اليوم، لكنني سأتوقف هنا وأتحدث عن بعض الحلول المتاحة، والحلول في غاية البساطة ولا تحتاج إلى عبقري، لنبدأ اليوم في معاقبة السلوكيات الخاطئة حتى مع علمنا بأنها لن تنتهي قريباً، على الأقل نبدأ، لو فعلنا ذلك فسنكتشف أن نسبة ارتكاب الخطأ قلت بعد عام إلى النصف... المهم ألا ننظر لذلك ك«حملة» تستمر لأسبوع أو شهر بل ممارسة مستمرة، تجاربنا مع ما يسمى «حملات» لم يأتِ إلا بالمزيد من الأخطاء... تقويم السلوكيات الخاطئة عمل لابد أن يأخذ صفة الاستمرار. يجب أن نشطب من روزناماتنا أسابيع المرور، وأسابيع النظافة، وأسابيع الصحة، هذه هرطقات لا فائدة منها، وقبل أن نبدأ علينا بتطوير الأنظمة وتقنين العقوبات والترويج لها إعلامياً بوسائل ذكية ومتقدمة حتى لا يقول أحدنا إنه لم يعرف بذلك من قبل... فهل نبدأ غداً، أم نستمر في التردد والخجل، ويستمر مع ذلك هدر المال والطاقات وتعطل التنمية وضياع الفرص؟ * كاتب سعودي.