أعمل هذه الأيام على الكتابة حول تاريخ المرأة في السعودية مع العزيزة فوزية أبو خالد، ومن بين أهم الكتب التي لا غنى لأي باحثة أو باحث في المجتمع السعودي أن يقرأه هو كتاب أ. د. ثريا التركي، أستاذة علم الأنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية في القاهرة AUC، "جدة أم الرخا والشدة" الذي شاركها في كتابته د. أبوبكر باقادر، وكيل وزارة الثقافة والإعلام (سابقا) وأستاذ الاجتماع في جامعة الملك سعود، بالإضافة إلى د. آمال طنطاوي. وهو كتاب تأتي أهميته من كونه يمثل دراسة مستمرة لمجتمع جدة خلال عشرين عاماً. فهو يتناول نفس المجتمع الذي سبق ل د. ثريا تناوله في كتابها حول المرأة السعودية الرائد عام 1986 والذي نُشر باللغة الإنجليزية, Women in Saudi Arabia, Ideology and behavior among the elite ونشرته مطبعة جامعة كولومبيا، والذي يعتبر من أول ما كتب حول المجتمع السعودي باللغة الإنجليزية. ثم هذا الكتاب الذي يتناول "تحولات الحياة الأسرية بين فترتين" والذي صدر عام 2006. أي ليستكمل المهمة البحثية الأنثروبولوجية التي أخذتها ثريا على عاتقها منذ ذلك الزمان. وهي "دراسة علمية عميقة وممتعة" كما تعلق عليها د. فوزية أبو خالد، أستاذة علم الاجتماع السياسي في جامعة الملك سعود، ويرى د. إسماعيل كتبخانة، عميد كلية الآداب السابق في جامعة الملك عبدالعزيز، انها "دراسة تشكل منعطفاً مهماً في نوعية وشكل الدراسات الاجتماعية". والكتاب ممتع من الجلدة إلى الجلدة في تفاصيله التي نعاصرها وعاصرناها، وسبق أن اطلعت عليه وقت حفل تدشين د. ثريا لكتابها عام 2006 في جدة عندما قامت بزيارة أخرى للرياض شرّفتني خلالها بزيارة خاصة، ولكني لم أخض فيه كما أفعل اليوم. فهو يضع كل تلك التجارب المعاصرة في إطار علمي ونظري يحفر ويفسر تلك الظواهر بشكل عميق وبسيط في آن واحد بحيث يناسب غير المتخصص/ة للمضي قدماً في القراءة. والكتاب عبارة عن دراسة استطلاعية كشفية تدور حول حالة التحول بالدرجة الأولى، التحولات الاقتصادية والسياسية التي قادت إلى تحولات اجتماعية ملفتة تركز على مؤسسة الأسرة، مع إعطاء هذه الصورة بعداً تاريخياً يبدأ مع النفط وتكون المدن الحديثة وما تلا ذلك من تغيرات اجتماعية، بل وتحديات على المستوى الفكري والاقتصادي والديني. وتصل منها إلى المآزق التي وقع فيها المجتمع تبعاً لهذه التغيرات كأيديولوجية الاستهلاك، التواكل على العمالة المهاجرة، البطالة المقنعة والهوية. وبما فيها أيضاً آثار غزو الكويت ويختتم بأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وتبعات حرب الخليج الثالثة عام 2003 على حياة الأسرة والمجتمع في السعودية مع التركيز على مدينة جدة وتفاصيلها الاجتماعية من ناحية تاريخها ومشكلاتها والهجرات إليها، ثم علاقاتها الاجتماعية التي يشكل الزواج عنصرها المركزي وما يحيط بهذه العلاقة من محددات للهوية وآليتها ودوافعها ونظرة فئات المجتمع إلى الزواج لاسيما الشابات والشبان فضلاً عن علاقات الزواج المتشابكة والمختلفة إثنياً ودور الدولة في ضبط هذه العلاقات ومؤثرات الحياة المتغيرة عليها وعلاقات القوة في الأسرة النووية وصلتها بالأسرة الممتدة وصلة ذلك بحل الخلافات الزوجية. ومن أهم ما يطرحه الكتاب هي مناقشة حالة الطفرة في تشكيل علاقة الدولة بالفرد وبالأسرة كأحد مظاهر ومستلزمات الدولة الحديثة مع تحليل للفروق في العلاقات وسرعة التحولات بين المجتمع الغربي الرأسمالي والمجتمع السعودي الذي يفرقه عن المجتمع الصناعي قرابة قرن من الزمان ونتيجة هذه السرعة الطفرية على تحويل المجتمع من بسيط وتقليدي إلى مجتمع ريعي بيروقراطي تمثل الأوراق الرسمية فيه احدى أهم علامات علاقته بالدولة الحديثة وأثر ذلك على تحولات الهوية وتشكلها بصورها المتعددة والمتداخلة. ويأخذ الخطاب الديني وتحولاته جزءاً كبيراً من التحليلات وعلاقته بالمرأة ومؤسسة الأسرة بشكل خاص. ومن الأسئلة التي يجيب عليها الكتاب وما زال يطرحها، إلى أي مدى سيصل التغيير بالمجتمع السعودي؟ وكيف يمكنه أن يتعامل أو يتكيف مع التحديات التي لا تفتأ تنبت وتتوالد مع تقاطعاته اللامحدودة مع الحداثة والتطورات العالمية والمحلية؟ مع التركيز على سكان جدة وكيف ينظرون إلى أنفسهم وإلى الآخر وتأثير ذلك على الحياة الأسرية؟ وكيف صاغت الدولة مراحلها وكيف تقاطع الخطاب الديني أو تداخل مع خطاب الدولة والأسرة؟ وما هي صورة المرأة والتحولات التي طرأت على أوضاعها الاقتصادية وأثر هذه التحولات على تشكيل الأسرة في جدة؟ وتمثل نتائج الدراسة واقعاً مؤلماً إلى حد كبير على مستوى وضع المرأة، حيث تجد أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية لم تنجح في تمكين النساء حقاً في مؤسسة الزواج وتحقيق شراكة حقيقية، وما زلن يخضعن لمعايير القوة التقليدية في علاقاتهن، كما لم تنجح هذه التحولات في إبدال حياة اجتماعية وثقافية بحياة أخرى مغايرة لها يرضى عنها الأفراد والمجتمع، أو بمزيد من الاقتحام للمجال الاقتصادي الذي يحقق للمرأة الاستقلالية المادية. وترى أن النفط والثروة المصاحبة له لم يؤديا إلى تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية مستقلة أو خلق مواطنين قادرين على تحمل عبء تحقيق هذه التنمية. لعل نتائجها تحمل غمامة من التشاؤم والظلمة، لكنه الواقع إلى حد كبير بل ويمتد بشكل أكثر فداحة عندما نصل إلى الطفرة الثانية التي نعيشها في ظل وجود أكثر من مليوني عاطل وعاطلة عن العمل وفي ظل تضاعف حجم الاقتصاد السعودي من 1384 مليار ريال في عام 2009، إلى 2727 مليار دولار في عام 2012، أي بزيادة 97% وفق د.عبدالعزيز العويشق في "جدلية البطالة والنمو واليد الخفية للاقتصاد" (29/1/2013).