مسلمون يجهلون أحكام دينهم حتى في أبسط أمورهم الحياتية، هكذا تبدو الصورة حيث تشهد الأمة الإسلامية نوعا جديدا من الأمية، فبالرغم من المناهج التي تعلم أحكام الإسلام، وتعدد البرامج الدينية وانتشار الفضائيات المتخصصة في أمور الدين؛ إلا أن الضعف في الثقافة الدينية متنام مما يشكل خطرا ينذر بتحول تلك الأمية إلى فيروس ينخر جسد هذه الأمة ويهدد مستقبلها. وبداية يؤكد الأستاذ في كلية الملك فهد الأمنية والمعهد العالي للقضاء وعضو لجنة المناصحة، الدكتور محمد النجيمي أن المجتمع الإسلامي يعاني من قصور في الثقافة الدينية الصحيحة؛ لانقسام الأمة إلى فريقين متناقضين أحدهما ينادي بالتشدد والتطرف الديني، والآخر تشوبه أفكار و نوع من الخلل بسبب انتشار الشعوذه والسحر والتنجيم؛ لأن المصادر التي يستقي منها ثقافته سواء أكانت قنوات أو مواقع إلكترونية تعتمد في مضمونها على الخلل وعدم التوازن. وأضاف: أعتقد أن هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور الديني، فمنذ أن جاءت ثورة الإتصالات مثلا لم يصاحبها مواكبة من قبل الآباء والأمهات لتصرفات أبنائهم مما أفرز خللا في الأسرة نتيجة كثرة الأخطاء التي يقعون فيها، والسبب الآخر هو عدم إقبال الشباب، والفتيات على القراءة، أما السبب الثالث فهو المبالغة في قضايا السحر والشعوذة، فبعد أن يتورطوا في المشكلة يلجأون إلى الدين لحلها، ويعتبر ذلك تقصيرا من الدوائر الحكومية التي تعتني بالدعوة؛ كوزارة الشؤون الإسلامية وجميع الجهات الأخرى المعنية بأمور الدين، فهناك فقر في توعية الشباب بأمور دينهم، كما يدخل في هذا النطاق وزارة التربية والتعليم، حيث نحتاج في مناهجنا الدينية للكيف أكثر من الكم، كما يجب تطوير هذه المناهج، بما يواكب المتطلبات العصرية، كما أن هناك تقصيرا إعلاميا كبيرا من ناحية المضامين المقدمة في التلفاز، من خلال العديد من البرامج والتي تركز في مضمونها على الترفيه والفن والرياضة بصفة أساسية، بينما الجوانب التثقيفية، والدينية المبسطة تكاد تكون منعدمة. مخاطبة الصفوة وحول عدم التجاوب مع القنوات الدينية يقول النجيمي: على الرغم من تعدد هذه القنوات وانتشارها بشكل كبير إلا أنها تخاطب الصفوة من المجتمع، وأصحاب الفكر والثقافة وتغفل دورها الحقيقي، رغم أن الخطاب الديني يمس الشباب أكثر من فئة المتدينين كما يفتقر إلى لغة الحوار حيث يأخذ قالبا مكررا، يجب أن تكون اللغة التي يخاطب بها الطالب في المدرسة سهلة وبسيطة، والأمر ذاته ينطبق على خطبة الجمعة، فعلينا الابتعاد قدر الإمكان عن المصطلحات الصعبة التي لا تترسخ في أذهان الناس بسرعة، وإعلاء قيمة الحوار التثقيفي من خلال المسابقات الدينية والبرامج النافعة. العزوف عن القراءة الإعلامي بندر المالكي، عزا ضعف الثقافة الدينية لدى الشباب لعزوف الكثيرين منهم عن القراءة كمصدر أساسي للثقافة، بالإضافة إلى وجود العديد من المغريات التي تساهم في عدم اهتمامهم بالجوانب الدينية فتعدد الفضائيات التي تركز في مضامينها على الترفيه تشكل هاجسا حقيقيا للمشاهدين، وعلى الجانب الآخر فإن القالب الروتيني الذي تقدم فيه البرامج الدينية يفتقر إلى لغة الحوار الديني بما يتناسب مع عقلية الشباب واهتماماتهم، والأسلوب القصصي في سرد المعلومة واقتصارها على الفتاوى والخطب يصيب المشاهد بالملل وبالتالي لا يحفزه على المتابعة كما أن هناك فئة ليست بالقليلة ترى أن الثقافة الدينية نوع من الرجعية التي لا تتناسب مع متطلبات العصر، ويشكل الالتزام الديني مصدر قلق لبعض الشباب؛ خوفا من تحول الإنسان الملتزم إلى شخصية انطوائية غير اجتماعية. فلابد أن يكون للثقافة الدينية مكان في حياتنا فمن المفيد جدا أن يتم تخصيص فترة من الوقت يوميا للاطلاع الديني على العديد من المواقع الهادفة والبرامج المفيدة؛ بهدف الارتقاء دينيا وتعلم كل ماهو جديد حتى ولو لم تكن هذه الفترة طويلة. ومن المعلوم وجدير بالذكر أن أسلوب الحوار الديني المشترك في المنزل من قبل الآباء لأبنائهم، وسرد القصص الدينية للأطفال بطريقة مشوقة تحببهم في أمور الدين تعطي نتائج مبهرة، فمثلا الاجتماع مع الأبناء بعد صلاة الجمعة في المنزل وسماع معلومة دينية جديدة في كل مرة من أحد أفراد الأسرة يكسر الروتين اليومي الممل ويحفز الأبناء على الاطلاع والتفكير. خلل الموازين من جانبها قالت أخصائية علم الاجتماع نجوى فرج إن هناك نوعا من الخلل في الموازين لدى البشر حيث يتم الخلط غالبا بين أمور الدين الشرعية وبين العادات والتقاليد المتوارثة، ويعتبر هذا الأمر سلاحا ذا حدين فعلى كل فرد أن يأخذ ما يتماشى معه، ويستفيد منه، فنحن مثلا نجد أن الطفل يكون لديه مخزون ديني جيد خلال فترة معينة، ولكن بمرور الزمن نجد أن هذا المخزون ينفد شيئا فشيئا حتى يتلاشى وينعدم، ويرجع ذلك إلى أن الطفل تكون لديه طاقة هائلة لاستيعاب معلومات جديدة في كل المجالات إلا أن طريقة التلقين من قبل المعلمين تؤدي إلى تفريغ هذه المعلومات في الامتحان وتبخرها من ذهن الطالب بمجرد خروجه من اللجنة، لذلك تجب الإشارة إلى أن الدين هو منهج حياة، ويحتاج إلى الممارسة الفعلية، كما أن المسلسلات الدينيه الهادفة وأفلام الكرتون التي تعرض قصص الأنبياء والسيرة النبوية مثلا تساهم بشكل كبير في التعرف عن قرب على الشخصيات البارزة دينيا في حياتنا، لذا يجب تدريس الأمور الدينية بأسلوب علمي متقن ومحبب للطلبة، وذلك للنهوض دينيا ومحو الأمية الدينية السائدة في الأمة. البرامج التثقيفية ودعت المنسقة الإعلامية بلجنة الشباب الإسلامي سامية السالك إلى أهمية تنفيذ العديد من البرامج التثقيفية والتكوينية، التي تراعى فيها جوانب العمر والمؤهلات العلمية، مشيرة إلى أن هناك برامج منذ سن الأربعة أعوام حتى الإثنى عشر عاما، تركز على غرس تعاليم الدين الحنيف في نفوس الأطفال، كما أن هناك أيضا مستوى آخر من البرامج المقدمة للفئة العلمية المتوسطة والثانوية، وتستعرض هذه المرحلة السيرة النبوية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كما أن هناك مراحل برامجية أخرى أكثر كثافة وتتطرق لأمور حياتية يومية في قالب ديني ممتع، وتضيف السالك أنه يتم تأهيل الفتيات المقبلات على الزواج دينيا وتثقيفهن بالجوانب الشرعية المختلفة. وهناك إقبال من الفتيات والشباب على مثل هذه البرامج لا سيما المقترنة بطرح المادة بشكل جذاب وبأسلوب سلس يخاطب وجدانهم ويناسب تفكيرهم. مشاغل الحياة الداعية والأستاذ المشارك في جامعة أم القرى الدكتور إحسان المعتاز يقول: إن انشغال الناس بشكل عام بمتطلبات الحياة ساهم في انقراض الوقت الذي يخصصة المرء لتعلم أمور دينه، أو أن يعتبر الأمور الدينية مجرد معلومات تزول بزوال فترة الاختبار، ولكن تبقى مهمة التثقيف الديني مسؤولية كل شخص، الأمر الذي لا يتأتى إلا من خلال الاطلاع باستمرار على كافة الأمور الدينية من مختلف المصادر المرئية والمسموعة حتى تتحقق التوعية الدينية في المجتمع، و أصبحنا نعاني من كثافة المضمون الترفيهي المقدم في القنوات في مقابل فقر المضمون الديني الذي أصبح حكرا على فئة معينة من الناس. ترويض النفس وأضاف: توجد العديد من القنوات الدينية ذات المضمون الجيد، والتي تتنوع في أشكال و قوالب برامجها إلا أن المشكلة تكمن في مكنونات أنفسنا حيث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» فمن الطبيعي أن تكون متابعة البرامج الدينية حملا ثقيلا على نفوسنا، ولا يخف هذا الحمل إلا إذا أرغمنا أنفسنا وقمنا بترويضها. ولا شك أنه توجد العديد من الوسائل التي نستطيع من خلالها النهوض بمستوى الثقافة الدينية، ومن ثم اقتلاع هذه الأمية ومحوها من المجتمع نهائيا،فمن الملاحظ تقاعس الكثير من الناس عن حضور خطبة الجمعة من البداية على الرغم من أهميتها الكبيرة، حيث تعتبر مصدرا تثقيفيا للعديد من قضايا الحياة والدين تتم مناقشتها أسبوعيا، فلو حرص المؤمن على حضور هذه الخطبة من بدايتها حتى نهايتها سيخف معدل الجهل الديني بكثير من الأمور إلى حد كبير، كما أن حضور الندوات والمحاضرات التثقيفية أو الدينية والاطلاع على كل ماهو مفيد في أمور ديننا ودنيانا يساهم في تفتح الأذهان ووعيها، ومن البديهي أن أهم عامل مساعد في هذا الصدد هو وجود الرغبة الحقيقية لدى الفرد لتعلم أمور دينه وتطبيقها عمليا على أرض الواقع وعندئذ تتحقق التوعية وتمحى الأمية من المجتمع. نهضة رائعة ويرى الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور خالد الحليبي، أن ضعف الثقافة الدينية في المجتمع قضية لا يمكن إنكارها على الإطلاق بل إنها تتمثل في جانبين هما:المهتمون بالعلم الشرعي أو ما يطلق عليهم طلبة العلم الشرعي، وهم الآن في نهضة رائعة ومتميزة وهذه النهضة تنحصر في عدة جوانب، ألا وهي ظهور طبقة من طلبة العلم هم ثمرة العلماء المتقدمين، فخرجت طبقة أخرى تتلمذت على أيدي هؤلاء وتتسم بسعة الأفق والجمع بين الثقافة الشرعية الأصيلة والاطلاع على الواقع وفهم العصر، كما تتسم بسعة مشاركتها سواء أكان ذلك عن طريق الصحف، أو الفضائيات أو المواقع حيث يوجد موقع خاص لكل شخص ممن يمثلون رموز الثقافة الشرعية يتواصل من خلاله مع الآخرين، بالإضافة إلى وجود دورات شرعية متميزة في جميع مناطق المملكة يقدمها علماء أعلام، ويلتف حولهم آلاف الطلبة على مستوى المملكة الأمر الذي يبشر بثقافة شرعية رصينة، تعتمد على الدليل الشرعي والعلم الأكيد، وتعتبر أمانا فكريا لهذا البلد لأن ما ضل الضالون في قضية الإرهاب في المملكة إلا لأنهم يتلقون فتاواهم وعلمهم ممن ليسوا أصحاب علم شرعي، وبالتالي لا يشكلون مصدرا موثوقا به، فالفتوى التي لا تكون مرتكزة على الحكمة ودراسة الواقع والفرق بين البلد الذي يعيشون فيه والبلاد الأخرى المتعرضة لمؤثرات سياسية مختلفة، وفقد للأمن وتوحد الشعب على دولة واحدة كما نرى في عدد من الدول الإسلامية هناك جانب ايجابي آخر في مسألة نشر الثقافة الشرعية، هو وجود عدد من الدور ذات الانتشار الواسع الجغرافي في المملكة والرأسي بعدد ضخم جدا من الكتب تضخ سنويا، بل ويوميا في كثير من الدور المتخصصة في هذا الجانب، كما أن جميع معارض الكتب في المملكة تشهد أن الإقبال الأكبر للناس هو على الثقافة الشرعية، لاسيما أن المملكة تتمتع وتنفرد من بين كل الدول الأخرى على الإطلاق بالاهتمام بالمناهج الشرعية بشكل خاص، حيث تدرس كل مادة من المواد الدينية على حدة، بينما تجتمع هذه المواد في عدد من الدول العربية والإسلامية في مادة واحدة هي الثقافة الإسلامية، ومن الأمور الإيجابية المبشرة بالخير هو إقبال الناس بشكل عام على معرفة الأحكام الشرعية لما يقومون به، واتضح مؤخرا أن كثيرا من الناس لديهم الرغبة في معرفة الحكم الشرعي في الأمور المتعلقة بمعاملاته الاقتصادية بينما ذلك لم يكن حيا قبل فترة حيث كان الناس يجازفون في العديد من المعاملات اليومية، دون الاكتراث بالحكم الشرعي، ويعتبر ذلك مؤشرا جيدا بارتفاع معدل الوعي الديني، لاسيما أن المحاضرات الدينية والتي تقام في المخيمات الدينية أصبحت تلقى إقبالا جماهيريا متزايدا خصوصا لو كان المتحدث شخصية معروفة. الأطر السلبية وعلى الرغم من وجود العديد من الإيجابيات إلا أننا لا نزال نلمح الكثير من الجوانب والأطر السلبية، لعل أبرزها جانب الجهل الذي يوجد عند النخبة بالجوانب الشرعية فقد تجد طبيبا أو مهندسا أو غيرهما ممن يوصفون بصفوة المجتمع يجهل بأقل الأحكام الشرعية، ويجادل فيها عن جهل، ناهيك عن تصدر عدد من الشباب غير المؤهلين للفتوى لمهمة الفتوى الشرعية، وهذا الأمر طرح في مجمع الفقه الإسلامي وطرحت له بعض الحلول وتحدث فيه سماحة المفتي وعدد من الشخصيات على مستوى كبير لأنه جزء من ثقافة شرعية مشوهة غير رصينة أو مؤكدة، وهناك جانب آخر يتمثل في غفلة بعض الناس عن السؤال في بعض القضايا الشرعية التي من المفترض أن يسأل عنها، فغابت الثقافة الشرعية في الأسرة في العديد من الأمور الحياتية مثل التربية والعلاقات الزوجية فأصبحت هناك فجوة بين الثقافة الشرعية وبين الحياة العامة. ومن الجوانب الواضحة والمؤشرة لضعف الثقافة الدينية الوقوع في المنكرات وانتشار الخلل في جانب التطبيق الشرعي في بعض الأمور المهمة، حتى تحولت إلى عرف لا ينبغي إنكاره، فمثلا في السابق كان حجاب المرأة شيئا بديهيا واضحا للعيان، أما الآن فأصبحت المرأة تحتاج لعباءة فوق عباءتها؛ حيث أصبحنا نختلف في أمور دينية بديهية، فمن أكبر مسببات ضعف ثقافتنا الدينية والذي يعتبر المنبع الأساسي للقضية هو أخذ العلم الشرعي من غير أهله وهو ما تقوم به الفضائيات حاليا حين تطرح قضايا غير قابلة للنقاش على طاولة النقاش.