لا شك أن ما كتبه السلف الصالح عبر تاريخ الأمة العريق يدعو للمفاخرة بعموم مضمونه، وعمق فنونه، وروح عصره. ولكن مقارنة بما مضى، مع العصر الذي نعيشه اليوم، يمكن الوقوف على هذه الملاحظات الجوهرية: 1- كانت تزخر كثير من كتب السلف، وبالأخص كتب الجهابذة المجتهدين المحررين بعرض كافة الأقوال التي بلغتهم، واجتهدوا في نقلها وجمعها، مما جعل لها أهمية، بغض النظر عن مآلاتها تحقيقاً، وتخريجاً. والخطورة اليوم أن يكتفي عدد من المؤلفين في العلوم الشرعية بطرحٍ أقرب منه إلى الفتوى الذاتية، وهذا يكرِّس القطيعة بين المسلمين عموماً، وطلبة العلم خصوصاً؛ لأنه يضع حاجزاً بينهم وبين الآراء الفقهية والفكرية المستنيرة، المواكبة لروح الشريعة ومقاصدها، والمستنبطة من الأصول والقواعد. 2- كُتبت العديد من التآليف المهمة في جوانب الاعتقاد أو الفكر الشرعي، أو الفقه السياسي، بما يتناسب مع طبيعة التاريخ والمرحلة التي كانوا فيها؛ ولذا فإن الخطورة هنا تكمن في إسقاطات النصوص على حوادث ونوازل وواقع تاريخي تغيَّر بالكلية عما كان سابقاً. بل حتى إن المواقف مثلاً من أصحاب الديانات، ودور الكافرين والمسالمين في ظل عصر العولمة، والاتفاقات الدولية، صار لها مسارٌ آخر، وواقعٌ مغايرٌ، وهذا يتطلب قراءة الظروف، وسياق تلك المؤلَّفات ضمن فتراتها الزمنية والتاريخية؛ حتى لا تتكرس ثقافات تستلهم من الماضي فقهاً وفكراً، ما يمكن أن يؤدي لثقافة تنشر القطيعة والعنف ربما. والحال كذلك في قراءة المشهد التربوي والسلوكي، الذي يجب أن تحرر فيه جوانب عدة كالورع، والأخلاق العامة، دون إفراط أو تفريط بين شعوب أضحت تتحرك بالملايين في بقعة واحدة، وتقف بالملايين في ميادين محددة، تجمعها مشتركات، ومواقف، وقيم عامة. 3- كان كثير من عمالقة سلفنا، ومجتهدي أمتنا يسعون إلى فكر "التحديث" و"التجديد"، وينفتحون على الثقافات الأخرى دراسة ومدارسة، اقتباساً وإثراءً، مما أسهم في التحرر، والبناء المنهجي، وتكوين أصول ثقافية عميقة، لها أثرها على الرؤية الإسلامية، بل حتى الفتوى الشرعية، والعلاقات مع الآخرين، وامتداداتها الحضارية الواسعة. ولدينا من هؤلاء كثر، منهم:(ابن سينا)، الذي لقب "بالشيخ الرئيس"، و"جامع الرئاستين"، و"المعلم الثالث" بعد (أرسطو) و(الفارابي)، و(ابن خلدون) القاضي، والمدرس بالأزهر، ومؤسس فلسفة علم الاجتماع والتاريخ، (وابن رشد) الذي يعرفه الغرب الأوروبي "بأفيروس" لمساهماته العقلية التجديدية التي دفعت بفكر الإصلاح والتنوير في أوروبا حين انطلقت في القرن 16، وكذا (ابن باجه) الذي أوضح مراحل التطور العقلي بطريقة أفضل من (كانط). هذا هو المفهوم الذي استوعبه الجيل الصالح من سلف الأمة نحو الشريعة والفكر والتاريخ والفلسفة وعامة العلوم الإنسانية. وهنا لن تنتهي كتب السلف في تأثيرها على العرب والمسلمين إلى عامة الأوروبيين بكافة أطيافهم وأديانهم، بل العالم أجمع شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. ومن قرأ الرسالة الصغيرة والعميقة (علماء الأندلس وإبداعاتهم المميزة وأثرها في نهضة الأندلس) للدكتور شوقي أبو خليل، أدرك ذلك. ومن غير هذا العمق، فإننا بحاجة إلى مراجعة شاملة للقديم، وغربلته، والاستفادة منه، والبناء عليه، لاجتهاد حديث، يلخص القاعدة العظيمة التي قالها أحد العلماء المعاصرين: "المجتهد الحي أولى بالاتباع من المجتهد الميت!".