لم تقم ثورة في أي دولة عربية إلا سبَّ مستبدوها وطواغيتها قناة الجزيرة سراً أو جهراً؛ باعتبارها رأس الفتنة ومسعِّرة الحرب عليهم. ولا أنسى معمر القذافي عندما أشار، وهو يخطب في الساحة الخضراء، إلى قناة الجزيرة باعتبارها وراء قيام الثورة الشعبية ضده. لكن هل تمتلك بالفعل قناة الجزيرة هذه القوة وتلك الإمكانيات لقلب أنظمة حكم، وتغيير حكام؟! قطعاً الجواب لا، رغم أنف كل المستبدين والمتكبرين. إذ إنه لا يمكن لقناة تلفزيونية أو أي وسيلة إعلامية أخرى مهما كان حجمها وتمويلها أن تسقط أنظمة وتغير حاكماً، أو أن تؤلِّب الشارع كاملاً ليهبَّ ضد طغاته. لا يمكن لكل هذا أن يحدث لولا أن الدود ينخر في أركان تلك الدول، حتى أمست في النهاية في حاجة لهزة بسيطة من أي أحد كي تنهار وتتلاشى. أنا متأكد أن كثيراً من الحكومات الآن تعض أصابع الندم عندما كانت قاب قوسين أو أدنى لإدخال القنوات الفضائية عن طريق الكيبل، بحيث تسمح للقنوات التي تتناسب مع خطِّها بالبث دون غيرها، إلا أنها عدلت عن الفكرة بسبب بعض المتنفذين سياسياً الذين رأوا أن العوائد المالية ستكون أكبر لهم عندما يكون الفضاء مفتوحاً، وجهلاً منهم بأنه لا يوجد خطر على الجبهة الداخلية لبلادهم لظنهم بأنها متماسكة رغم فساد إدارتهم. ما الذي جعل من قناة تلفزيونية «بعبعا» لكل ظالم وفاسد يحكم شعبه بالحديد والنار، هذا من جهة؟ ومن جهة أخرى، ما الذي جعلها تحقق كل تلك النجاحات حتى أصبحت موضع حسد كل القنوات الفضائية الأخرى؟ ما المميز في طرحهم حتى تفوقوا على قنوات لها سنين طويلة في البث التلفزيوني، ولم تستطع قنوات جديدة مجاراتها أو مداناتها في النجاحات الإعلامية؟ من وجهة نظري، لم يكن سبب نجاح قناة الجزيرة المبهر، التمويل المالي رغم وجوده وأهميته، ولا بسبب وسامة مذيعيها وأناقة مذيعاتها كما ترمي بعض القنوات بكل ثقلها في هذا الجانب، ولكن بسبب نوع وعمق الطرح الإعلامي للقناة. لقد استطاعت قناة الجزيرة شكلاً ومضموناً أن تكسب الشارع العربي العريض، بتسليط الضوء على قضاياه المصيرية وتطلعاته القومية ومشاكله المحلية وعلى كل المستويات. لقد لمست منذ فترة في الإعلام العربي، تضعضع الاهتمام بالقضية الفلسطينية باعتبارها القضية الأولى لجميع المسلمين ولكل العرب، حتى أصبحت مع مرور الوقت من الموضوعات المكررة والمملة لدى الناس، فلم تعد تحظى بذلك الحماس الشعبي الموازي لمحوريتها في تاريخنا الماضي وحاضرنا المعاش ومستقبلنا القادم. في هذا الجو الانهزامي، تمكنت قناة الجزيرة من إعادة الوهج للقضية الفلسطينية في الضمير العربي والإسلامي، من خلال برامجها المتنوعة والذكية جداً عن أرض فلسطين الحبيبة، وعن معاناة شعبها، وعن المقدسات الإسلامية والمسيحية فيها، والأهم أنها تذكرنا بالعداء التاريخي الذي يحمله الصهاينة ضدنا. رأى البعض في عالمنا العربي بعد أن تنبهوا لخطورة قناة الجزيرة في توجيه الشارع العربي، بأن أفضل حل هو مداواتها بما هو داء، أي بإنشاء قنوات إخبارية مماثلة لكي تنافسها وقد تتفوق عليها، إلا أن النتيجة لم تكن مرضية حتى الآن. وذلك أن قناة الجزيرة تقدم ما لا تستطيع أن تقدمه أي قناة أخرى، موضوعاً ومضموناً. ليس فقط بعض صناع القرار في العالم العربي يكرهون الجزيرة، بل هناك كثير من المتسلقين والمتسللين إلى الإعلام المرئي أو الصحفي يكرهونها، وليس لديهم أي انتقاص لها سوى أنها غير موضوعية من وجهة نظرهم، بسبب أنها غير مستقلة مالياً. ومادام أنها غير مستقلة مالياً، فإنها إذن على قدم المساواة مع القنوات الأخرى التي تمول من أطراف مختلفة، وعليه فإنها كغيرها من القنوات مسيسة وغير نزيهة تماماً. هذه كلمة حق يراد بها باطل، صحيح أن كل القنوات غير مستقلة، ولكن شتان ما بين طرح الجزيرة وطرح غيرها. فالعبرة في طبيعة البرامج وحياديتها. بل ويصل التشكيك في قناة الجزيرة إلى درجة وصفها بأنها صنيعة إسرائيل. استقلال الجزيرة مالياً عن إداراتها الإعلامية واضح من خلال طرحها، فإطلاقك شيء معين لا يعني أنك تتحكم في نتائجه. ولو حتى كانت صنيعة إسرائيلية، أليس من الجميل أن ترى السحر ينقلب على الساحر. برأيي، فإن قناة الجزيرة تحمل رسالة حضارية للنهوض بالأمة العربية، وكي يلاحظ الشخص هذا الأمر عليه أن يتعدى في ملاحظته الأخبار، إلى برامجها الحوارية، والوثائقية، وحتى برامجها التثقيفية السياسية كمقاليد الحكم ومقاطعها الصغيرة بين البرامج، بل حتى شكلياً، قناة الجزيرة تلامس واقع أمتنا عندما تسمح لمذيعاتها بالتحجب، وهذا ما لا تسمح به قنوات أخرى منافسة، وكأنهن يخرجن في قنوات غربية وليست عربية، رغم أن معظم المسلمات في الواقع هن متحجبات! بعد أن تفوقت الجزيرة بالصوت والصورة وبكل الألوان في محيطها، انطلقت دولياً كي تخاطب المشاهد في أوروبا وأمريكا، وهذه خطوة مهمة سوف يكون لها نتائج ممتازة مستقبلاً في حشد التأييد لقضايانا الدولية.