ربما كان من أبرز منشطات الصدمة من مستجدات العصر التي تعيشها بعض المجتمعات العربية، التطور السريع جداً، وإذا كانت الكتابات تناولت الصدمة من الجهة التقنية أو الفكرية، فإنني سأتناول هنا تأثير الانتقال المكاني من مكانٍ إلى آخر في المجتمعات، وعلى طريقة تعاملها مع المحيط والعالم، إذ كان للنقلة التي شهدها العالم العربي منذ القرن ال19، أكبر الأثر على رسم صورة العالم، وعلى تغيير طريقة العيش. ومن جهة أخرى، فإن الانتقال من «الريف» إلى «المدينة» كان سريعاً لم يمرّ بأي مخاضات يمكن أن تمهّد لعصر المدينة، لذا أصبحت المدن العربية مصبوغة بلون القرية. يشبّ الإنسان في ريفه أو قريته، وهو يظنّ أنها هي مركز العالم، وأن كل ما هو خارج محيطه الصغير هذا مجرّد هوامش على مركزه الحالي، فينشأ على هذا التصوّر والصدمات التي لاحقت بعض الذين خرجوا من الأرياف والقرى إلى المدن في بداية مشروع التمدين في الخليج والعالم العربي لم تكن هيّنة، صحيح أن بعض البقع تختلف عن البعض الآخر بحسب المؤثرات المحيطة، إذ استفادت المجتمعات الخليجية من البعثات التي نقّبت عن النفط في سبيل اكتشاف معالم أخرى للحياة، ومسارات أخرى لخريطة الكون، فأثمرت عن مجتمع جديد استطاع أن يبني بدعمٍ غير مسبوق من أجل رفع الغطاء عن المدينة واستقبال سكان الأرياف والقرى والدخول في مكائن التعليم والعصر. المخاض الذي لم يتم إبان الانتقال من الريف إلى المدينة تجلى في مخاض مضاعف عاشته المجتمعات داخل المدينة من أجل استيعاب فكرةٍ أساسية، أن «المدن» العالمية لا تشبه مدينتهم، وأن مدينتهم ليست سوى قرية كبيرة انتقلت إليها كل عادات وتقاليد الريف والقرية، فأصبحت بعض الفئات الفكرية تكافح من أجل صناعة مخاضٍ مؤجّل، هو أشبه ما يكون بمشروع «تمدين المدن» التي لم تكن في يوم من الأيام سوى قرى شاسعة. حينما ربط ماركس نشأة الحداثة بالرأسمالية كنظامٍ اقتصادي بالبرجوازية كقوة تحديثية، صرف مدائحه للبرجوازية، وذلك في «البيان الشيوعي» حيث أدخلت تغيرات ثورية على أدوات وعلاقات الإنتاج، كما رأى أن «البرجوازية تجتاح الأرض، تحثها الحاجة إلى الأسواق الجديدة دائماً، لقد أخضعت البرجوازية الريف للمدينة، وخلقت مدناً عظيمة، وزادت بصورة مفرطة سكان المدن، على حساب سكان الأرياف، وبذلك انتزعت قسماً كبيراً من السكان من بلاهة حياة الحقول»، كأن المدينة تعيش حال حراك مع هوامشها، من أجل زرع روحها بين أريافها المتوزعة وقراها البعيدة. إن استقطاب الإنسان من الريف إلى المدينة مكّن المدينة من احتضان الأكوام البشرية وإدماجهم في مكائنها، كما عملتْ على تعبئتهم بصلابة حياة المدينة التي تعتمد في جوها العام - أو هكذا يفترض - على مسارٍ من الحزم في القانون والنظام، فيصبح الإنسان القادم إلى المدينة في حال من التحفّز قبل أن يندمج مع إيقاع المدينة الجديد. تغصّ المدن الحديثة بالسكان الذين لم يستوعبوا بعد هزة الانتقال تلك، ولعل الممانعة التاريخية ضد ممارسات التحديث تبرهن على حجم التضخم الذي لعبته تأسيسات ما قبل التمدين، في رسم مسار ضيق لحركة التمدين ذاتها، لتصبح المدن مجرد وعاء يبتلع البشر، ولتتحول البيوت إلى ثكنات اجتماعية، ومن ثمّ يتحوّل كل بيت إلى «قرية» مصغرة تنفي ببناياتها الشاهقة ضغط التحديث الذي تضخّه المدن، فلم تنتج المدن فناً أو جمالاً، ولم تعرف كيف تستوعب كل هذا الضجيج، اختفت الخضرة والأماكن السارّة لمصلحة المكائن والجدران، وبات كل بيت بما لديه فرح، وتنافت النفوس، فلا نحن كسبنا روح المدينة، ولا نحن احتفظنا ببلاهة القرية والريف أو براءة ما قبل التمدين، إنه فصام اجتماعي غفلت عنه الدراسات المشغولة باستهلاك عناوين وشهادات على كلامٍ فارغ.