لا أنتقص، وليس من حقي، ولا من الأخلاق والدين الانتقاص من حق أي إنسان خلقه الله. كما أنني – قطعاً – لست ضد «الديمقراطية» وحرية الناس في الحياة والتعبير وفق الضوابط الإنسانية والأخلاقية والقانونية. أقول ما تقدم احترازاً من أن يتهمني أحد بتهمة أنا بريء منها، وحتى لا ندخل في مزايدات ورفع شعارات، والآن دعونا نتفق على أن الناس مراتب ودرجات في كل شيء، والله جل وعلا يقول «ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا»، ولا أظن أحداً يجادل في أن الفرق واضح بين أستاذ جامعة يحمل الدكتوراة – الحقيقية وليس شراء – وبين عامل بناء لم يتجاوز تعليمه الابتدائية – مثلا – وعلى ذلك قِس، والفرق هنا معرفي وليس إنسانياً. دعونا من الغرب الآن، وتابعوا طوابير المحتجين والمعتصمين والناخبين في المدن والشوارع العربية، ثم استمعوا إلى آرائهم ووجهات نظرهم على الشاشات، ولماذا يؤيدون هذا الأمر أو يرفضون الأمر الآخر، وماذا يريدون من الرئيس أو الوزير أو الوطن، تابعوا مثلي، وتأملوا، وستجدون العجب العجاب، ستجدون صنوفاً من الجهل والتبعية لرموزٍ، والتقليد لآخرين، وأحياناً كثيرة جداً ستضحكون ملء الأشداق، وسوف تتساءلون بمرارة: هل هؤلاء يستحقون الثقة في آرائهم لتحديد مصير وطن؟ هل هؤلاء يستحقون أن تؤخذ أصواتهم لترجيح كفة فلان أو علان، هل يصح بحجة «الديمقراطية والمشاركة الشعبية» أن يكون لكل من هب ودب صوتٌ ورأي واعتبار، حتى لو كانت معلوماته وقدراته لا تؤهله لأكثر من أن يعمل ويعيش، وفق ما يراه ويهيئه الراشدون القادرون على التفكير والتخطيط من أبناء وبنات قومه، هل يجوز تمكين مَن لا يدري ولا يعرف أن يقرر مصيراً لمسؤول أو وطن بحجة أنه مواطن ومن حقه أن يكون له رأي، وهل أي رأي ليس لدى صاحبه أي قاعدة معرفية يجب الأخذ به. سيأتي الآن مَن يقول «الناس تغيروا، والناس أصبحوا يعرفون حقوقهم، وتابع تويتر وستجد الحقيقة»، وسأقول صحيح أن الناس وعوا وأصبحوا يعرفون حقوقهم في الحياة الكريمة الشاملة، ولكن هل كل مَن عرف حقوقه، يستطيع تحديد الاستراتيجية والمسؤول الذي يحقق له تلك الحقوق، وسأستشهد بما يحدث في «تويتر» نفسه. تابعوا وتعرفوا على العقليات والمستويات. إنني لا أدعو إلى مصادرة حق أي إنسان في التعبير عن نفسه ومطالبه وحقوقه، ولكن لا يعمينا شعار «الديمقراطية» عن حقائق الأرض والإنسان. أعتقد أن «الديمقراطية الغربية» خدعت العرب ببريقها ورونقها، فأخذوها على علّاتها، ولم يفكروا في ابتكار آلية تخصهم للتطبيق، وتحدد لهم مَن هم أهل «الحل والعقد» في أوطانهم، الذين يحق لهم أن ينتخبوا، ويُنتخبوا، والذين من حقهم وواجبهم تحديد مصائر الأوطان، فتردى بهم الحال حتى فكرت – أو أظنها فعلت – «سمية الخشاب» – مثلا – أن ترشح نفسها لرئاسة مصر، وغيرها كثير فكروا أو فعلوا، ومرة أخرى أؤكد أنني لا أنتقص ولا أسخر من أحد، لكن لكلٍّ في الحياة مكانه الذي يجب ألّا يتجاوزه إلا بحقه. وأخيراً، فليست الديمقراطية بحالها الفوضوي الراهن هي التي خدعت العرب ببريقها، بل سبقتها القومية، والبعثية، والاشتراكية، وغيرها، وكل نتائجها المؤسفة والمحزنة عرفوها، ومازالت ماثلة للعيان، لكنهم لا يتعظون، ولا يفكرون، بل ولا يقرأون تاريخ الشعوب الديمقراطية فعلاً، الذين لهم تاريخ يوضح كيف وصلوا إلى ما هم فيه، وكيف نضجوا، وهل دهماؤهم وغوغائيوهم هم الذين أوصلوهم، أم العقول الكبرى المؤهلة، العرب لم يسألوا أنفسهم هل هكذا «ديمقراطية» وبهذه الآلية، ومشاركة كل من هب ودب ستدفعهم إلى الأمام، أم ستكرس تخلفهم، وتشرذمهم وتضعفهم، وهل ستفضي إلى تقديم أفضلهم علماً وخبرة وقدرة لقيادة الأوطان، أم ستأتي بمَن يصعد على أكتاف الدهماء والغوغاء «بفلوسه» أو شعاره الأجوف، أو إيديولوجيته المضللة، ولم يتأملوا في الخطوات التاريخية للغرب الذي نضجت تجربته، واستقرت، ومؤسساته في ذروتها، وأوطانه في قمتها اقتصاداً وتعليماً وحياة شاملة. مع الأسف الشديد إننا مازلنا «أمة شعارات».