تراكمتْ في موروثنا مجموعة من المفاهيم المغلوطة، والمبادئ المُفقّرة ذاكرة طموح الإنسان في حياة كريمة، من خلال الاستعمال المتناهي لفهم النصوص، ما يهبها صفة القداسة ويحجر على الفكر، ويحد من الابتكار، ويعطّل قوى العقل البشري عن فرز ما يرد عليه، وعن الاشتغال على تفسيرات خلّاقة بعيدة عن الأحكام الصارمة والقوالب الجاهزة، وتؤكدُ النظريات التربوية أن ترديد وصفٍ ما على مسامع إنسان مدعاة لتلبسه، أو الالتباس به، مستشهدين بتعزيز روح الثقة في الطفل حين نطلق عليه وصف الشجاعة خصوصاً في المجتمعات البدوية فيتكرّس في وجدانه أنه فارس وغير هيّاب وقادر على مجابهة الصعاب وتجاوزها وينمو حس الشجاعة فيه حقيقة، في حين يتردى ويضعف من نعدد مواطن زلاته ومواقع خلله، ومن نعيّره بفشله وعجزه ليتحول إلى كائن مسلوب أو مستلب، فهناك روابط إيجابية بين الخطاب المادح وبين تفعيل قدرات الممدوح، فيما تكمن السلبية في تركيز الخطاب القادح على جوانب النقص والنعوت البليدة، ولو أنك أطلقت على أحد ما وصف بهيمة، أو (رعيّة) بمعناها الحيواني واللاإنساني، حتى غدا التوصيف ظاهرة فلربما (تستبهم) البشرية مع استمرار طرق مفردة (بهيمة) أسماعها، وتتأصل سياقات تهز ثقة الإنسان في آدميته، وإن جاءت المفردة في أُطر شرعية فالهدف إخضاع وتركيع الفرد أمام سلطة مستبدة ما، ومن التأمل الطويل في مؤلفات فقهاء تعتد بهم الأمّةُ الإسلامية وتعدهم أكثرها فقهاً وفهماً وقدرة على التبليغ عن الله، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية باعتباره من أوائل كُتّاب السياسة الشرعية، أجدُ أنه مرر في كتابه «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعيّة) نصوصاً وآثارا أستبعد أن تتوافق مع جوهر الإسلام، بل وتتنافى مع القيم الإنسانية التي جاء بها الرسول الكريم عليه أتم الصلاة وأكمل التسليم، منها ما أورده (عن التابعي أبي مسلم الخولاني أنه دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال: السلام عليك أيّها الأجير، فقالوا: قل السلام عليك أيها الأمير، قال: بل الأجير فإنما هو أجيرٌ استأجره رب هذه الغنم لرعايتها) إلى آخر القصة التي تؤصل لمفهوم بهائمية الشعوب على لسان تابعي وفي مجلس خليفة من الصحابة دون نكير، وتناقلها الرواة على أنها مسلَّمات يجب على الخلق الاقتناع بها والاعتناق لها، فالمواطنون بمنطق الأثر (غنم)، والبعض يرى في حديث (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) رافداً لهذا المفهوم التعسفي والمضاد لكل القيم الإسلامية التي تُعلي شأن الإنسان، وأتصور أن الإهمال النقدي لمثل هذه الآثار مقصود في ظل تجذير سلطة الاستبداد عبر قرون عدّة، ولعل أول من رفع صوته برفض مثل هذه المصطلحات المسيئة والجارحة المفكر الراحل خالد محمد خالد في كتابه (مواطنون لا رعايا).