طلب مني أحد الأصدقاء أن أبحث مسألة قتل الوالد ولده، وهل يجب على الوالد القوَد؟ وعما قاله السادة الفقهاء فيها، وما الراجح في هذه المسألة؟ والحق أنه عندما ينظر الباحث في كتب الفقه المقارن التي تنقل آراء جميع المذاهب بأدلتها وتناقشها، فإنه ولابد سيميل مبدئياً لقول من قالوا لا يُقتل الوالد في هذه الحالة. ذلك أن الذين أخذوا بهذا الخيار هم الأكثرية من الفقهاء ممن جرى الاصطلاح الفقهي على تسميتهم بالجمهور، فالجمهور هنا تعني الأكثر. ها هنا قاعدة ذهبية تعلمتها من فقهائنا العظام، ألا وهي أن الباحث لابد أن يحترم قول الجمهور، دائماً وأبداً، حتى وإن اختار مخالفتهم. فالاحترام لا يتعارض مع ضرورة أن يكون لك رأيك وترجيحك المستمد من القرآن والسنة. لكن عندما يكون الخصم هو الجمهور فلابد أن يكون ترجيحك كنقر الباب بالأظافر بدلاً من الطرق الشديد. لو نظرنا في كتاب المغني لابن قدامة –مثلاً- وهو أحد أهم كتب الفقه المقارن وأحسنها تصنيفا وترتيباً، فإننا سنجد أنه يقول: «وجملته أن الأب لا يقتل بولده، والجد لا يقتل بولد ولده، وإن نزلت درجته، وسواء في ذلك ولد البنين أو ولد البنات. وممن نقل عنه أن الوالد لا يقتل بولده عمر بن الخطاب رضي الله عنه..». من الذي خالف الجمهور في هذه المسألة؟ إنه إمام دار الهجرة مالك بن أنس، فقد قال: «إن قتله حذفاً بالسيف ونحوه لم يقتل به، وإن ذبحه أو قتله قتلاً لا يُشك في أنه عَمَد إلى قتله دون تأديبه، أقيد به». الإمام المطلق كمالك، لا يلقي مثل هذا الكلام على عواهنه، فالصورة لها معنى. والقتل بالسيف مجرد مثال وصورة من صور، وكلامه واضح في أنه إذا حصل اليقين بتحقق إرادة القتل وأنه قصد القتل مصرّاً عليه، فإن الوالد يُقاد بالولد. واحتج ابن قدامة لترجيح مذهب الجمهور على مذهب مالك بحديث: «لا يقتل والد بولده». هذا الحديث ذكره ابن عبدالبر في كتاب الاستذكار -وهو كتاب آخر من أفضل وأحسن كتب الفقه المقارن- وقال: «هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه». هذا الكلام غريب من ابن عبدالبر، خصوصاً وهو يقف هنا ضد مذهبه مذهب مالك، لأن الشهرة والاستفاضة لا تعني الصحة بتاتاً. فكم من نص مشهور يجري على لسان الكبير والصغير وهو من أبطل الأباطيل. وهذا الحديث قال فيه الناقد الكبير علي بن المديني: «ليس هذا مما يعتمد عليه». ووصفه الترمذي في سننه بالاضطراب. والحديث المضطرب من أقسام الضعيف. إلا أن الجمهور لم يكتفوا بالاستدلال بالحديث، بل احتجوا أيضاً بالنظر العقلي، فقالوا: إن الوالد سبب في إيجاد الولد، فلا يجوز أن يكون الولد سبباً في إعدامه. والذي تحصّل معي، أنني بعد بحث متوسط، لم أجد أحداً شفى نفسي في هذه المسألة مثل شيخنا وإمامنا وفقيهنا الفقيه حقاً، محمد الصالح العثيمين رحمه الله. هذا الحَبر الذي يحق لهذه البلاد أن تفاخر البلدان بأنه من أبنائها. إذ هو من القلائل الذين يجعلون الدارس لما يكتبون يستشعر لذة العلم وطعم الفقه، ذلك أن فقهه منطقي متناغم متسلسل، وهو مع ذلك مبني على النصوص مقيّد بها، فلا هو رأي عقلي محض كرأي من لا يعرفون قيمة النصوص، ولا هو تنقل بين المرويات بلا زمام ولا نظام ولا رابط ولا قاعدة كشأن بعض حفاظ الحديث الذين لم يؤتوا حظاً من الفقه والنظر. في هذه القضية التي بين أيدينا أوضح الإمام ابن عثيمين أن القائلين بأن لا يقتل والد بولده، لا يملكون نصاً صحيحاً ولا تعليلاً صحيحاً، فبانت مرجوحية اختيارهم، يقول الشيخ في كتاب الشرح الممتع المجلد رقم 14: «ولننظر في هذه الأدلة، أما الحديث فقد ضعفه كثير من أهل العلم، فلا يقاوم العمومات الدالة على وجوب القصاص، وأما تعليلهم النظري فالجواب عنه أن الابن ليس هو السبب في إعدام أبيه، بل الوالد هو السبب في إعدام نفسه بفعله جناية القتل». «والراجح في هذه المسألة أن الوالد يقتل بالولد، والأدلة التي استدلوا بها ضعيفة لا تقاوم النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على العموم، ثم إنه لو تهاون الناس بهذا لكان كل واحد يحمل على ولده، لاسيما إذا كان والداً بعيداً، كالجد من الأم، أو ما أشبه ذلك ويقتله مادام أنه لن يقتص منه».