عبدالله بن بجاد العتيبي - الاتحاد الاماراتية قبل سنوات قليلة مضت، كان المشهد في المنطقة العربية مقسماً بين محوري الممانعة والاعتدال، كان يمثّل الأوّل إيران غير العربية، وسوريا الأسد و"حزب الله" بلبنان و"حماس" بغزّة، ودخل العراق كلقمة سائغة في هذا المحور لاحقاً، وكان يمثل الثاني السعودية ودول الخليج ومصر والأردن، واليوم تغيّر المشهد تغيرات دراماتيكية كبرى. في المشهد الثقافي والإعلامي العربي والخليجي بشكل أخص كان الحضور الأقوى هو لمحور الممانعة لا محور الاعتدال فدعاياته كانت أقوى تجييشاً وخطابه كان الأعلى صوتاً، وسياساته التوسعية أكثر نجاحاً، وكان كثير من التيارات القومية وتيارات الإسلام السياسي في العالم العربي والخليج بما تعبّر عنه وبه من رموز ومراكز أبحاث ووسائل إعلام، وبما تنتجه من فكر وتحليل يصب جميعاً في خانة هذا المحور الممانع وتأييد أطروحاته وتبرير قراراته والجزم بأحقية مواقفه وسياساته، وكان يرافق ذلك بطبيعة الحال نقد متواصل لمحور الاعتدال وسياساته ومواقفه ربما وصل بالبعض حد السخرية والتخوين والاتهامات المتفرقة. حتى في لحظات الصدام الكاشفة بين المحورين، كحرب "حزب الله" المفتعلة مع إسرائيل 2006، وكذلك حرب "حماس" معها 2008، وغزوة "حزب الله" لبيروت 2008 مدججاً بالأسلحة الإيرانية التي هُزمت شرّ هزيمة بعد تحرّش الحزب بإسرائيل، فعاد ليصنع مجداً زائفاً وقام بتوجيهها لصدور المواطنين اللبنانيين من الطوائف الأخرى والأحزاب السياسية المعارضة له ولسلاحه. انجرف كثير من المثقفين العرب خلف هذا المحور وخطابه وشعاراته ودعاياته، والأنكى أن بعض المثقفين الخليجيين تبعوهم على عماءٍ، وفعلوا الأمر ذاته، ولم يروا في لحظات الصدام تلك منبهاً للمراجعة وإعادة القراءة والتفكير، ولم يمتلك أحد منهم شجاعة تركي الحمد في حرب الخليج الثانية، حين راجع بعض قناعاته السابقة وتصادم مع محمد عابد الجابري ضد جريمة صدّام حسين بغزو الكويت، بل استمر الأغلب منهم في غي الممانعة يعمهون ولم يستيقظوا إلا بعد ثورة الشعب السوري ضد نظام بشّار الأسد. لقد عرّت الأزمة الدامية في سوريا، والمجرزة التي قادها هذا المحور ضدّ الشعب السوري كل محاولات الترويج والتجميل السابقة، وسقطت ورقة التوت الأخيرة عن عورات هذا المحور وبدأ يخسر كثيراً مما بناه عبر سنين طوال، وتساقط مؤيدوه كورقة يابسة على قاع الواقع المرير، ولم يتبق منهم من يؤيد ذلك المحور غير عميل مستخف أو قليل عقل لا يعي. تاب كثيرٌ من المثقفين العرب والخليجيين عن متابعة ذلك المحور، ولكنّ هؤلاء التائبين من الممانعة سواء اتجهوا للاعتدال أم لغيره قد نسوا كل ما كتبوا وسطروا في تلك الفترة الممتدة وتلك المواقف الحرجة، وأخذوا يزايدون على قلة كتبت واتخذت مواقف سياسية وفكرية ضد ذلك المحور ودفعت ضريبة مواقفها تلك وتحمّلت كل حملات التشويه المسعورة والتشكيك الممنهجة، ليعود هؤلاء التائبون أدراجهم ويفتحوا صفحة جديدةً دون حاجة لتذكّر ماض أو مراجعة موقف أو الإعلان عن تغيير طرح ورؤية، والحديث هنا ليس عن تغيرات طبيعية، فكرية أو سياسية تأخذ وقتها في النضج والتغيّر بل عن تغيرات سريعة لم يرافقها أي شرح أو توضيح. القليل من هؤلاء تغيّر بناءً على تطوّر طبيعي في المعرفة والرؤية ورصد واع للوقائع والأحداث وتحليل للمستجدات والمتغيرات، ولكنّ الأكثر قلب صفحة وفتح صفحة جديدة دون أن يبرّر لعقله قبل قرّائه ما صنع، والبعض المحزّب تغيّر لتغير التوجّه لدى قياداته، فقد تعوّد أن يتبع ويطيع دون أن يفكّر مهما كان اسمه وشهرته فالكادر يبقى كادراً. ربما لأن الغالبية لا تقرأ في العالم العربي، وكثير ممن يقرأون ينسون ما قرأوا، وبعض من لم ينس منهم تشغله الأحداث الكبرى المستجدة عن رؤية ما جرى بالأمس القريب فضلاً عن القدرة على الاستحضار الواعي له وعقد المقارنات المفيدة بين طروحات الأمس وطروحات اليوم وإجراء الفحص، لا يجد كثيرون حرجاً في التقلّب بين المواقف ذات اليمن وذات الشمال. مطلع 2011 وبعد الاحتجاجات والانتفاضات العربية تكرر المشهد نفسه، فثار بعض المثقفين العرب والخليجيين مع الثائرين، بالصوت فقط، وحين عاود بعضهم الوعي، وأدرك أنّ ما يجري ليس ربيعاً عربياً، قلب صفحة وبدأ صفحة أخرى وتوكّل على الله وكتب من أوّل السطر. اليوم، تتخلّق في المنطقة محاور جديدة دولياً وإقليمياً وعربياً، وسيستمر البعض في تناولها وهو يلبس لكل حالة لبوسها في طرحه وفكره ومواقفه السياسية، وسيبقى له أتباع يشيدون به حيثما ولّى وجهه دون فحص أو تمحيص أو مساءلة، بل دون شعور بأي تغيّر فالتابع يبقى تابعاً. ثقيل على بعض النفوس أن تعترف لمجايليها بمزيد معرفة أو صوابية رؤية أو دقة تحليل أو نفاذ بصيرة، فهي مزية لا تحتملها إلا النفوس الكبار والقلوب المنفتحة والعقول التي تفتش عن الحقيقة، وهي في بحث دائم عن المعرفة، ولهذا فإن تلك النفوس تلجأ إلى التجاهل المتعمّد أو التشتيت أو البدء من الصفر كما تقدّم، وبعضها معذور لأنّه مجرد جاهل لا أقل ولا أكثر. الإنسان الذي لا يتغير ولا يتطوّر ليس بإنسان، والمثقف أولى الناس بالتغيير والتطوير ذلك أنّ صفته تلك توجب عليه استمرار تلقّي المعارف والاستزادة منها بشتى الطرق والوسائل، مع متابعة الأحداث والمتغيرات، والمحافظة على العقل المتفحص والمتسائل والناقد والروح الوثابة للبحث والجامحة للحقيقة، فهو حين يثبت على لحظة معينة من حياته ويجمد على رؤية محددة لا يعود مثقفاً بل مجرد جهاز تسجيل انتهت مساحته فلم يعد يقبل جديداً. تجدر الإشادة في هذا السياق بمثال ناصع عبّر عنه الأستاذ هاشم صالح فقد تراوحت كتاباته منذ بدء "الربيع العربي" بين أمل يفتّش عنه وتخوف يمتلئ به ذهنه، فاندفع قليلاً خلف ضخامة الحدث واستثنائيته، ولكنه لسعة معرفته وصدق إخلاصه في التفتيش عن سبل الخلاص الحضارية التي عبّرت عنها كتبه ومقالاته لم يلبث أن عاود نفسه وطرحه فعبّر بصدق عن مثقف حقيقي جدير بالاحترام والثناء، لا يرجو الغوغاء ولا يخشاهم بقدر ما يحرص على الظفر بالمعرفة الأوسع والرؤية الأصوب.