من الواضح أن السعودية نفضت يدها من القيادة الحالية للنظام السوري، ومن الواضح أيضاً أنها تجاوزت في ذلك خط الرجعة. لكن من الواضح، وللمرة الثالثة، أن الرياض لا تفعل ما يتناسب مع حجم موقفها وطبيعته من هذه المسألة، فمع كل ما يقال عن دعم السعودية، مع قطر وتركيا، المعارضة السورية بالسلاح، إلا أن استمرار تفوق النظام على الأرض وفي الجو يشير إلى أن أغلب ما يقال عن هذا الموضوع هو من مبالغات النظام وحلفائه. السعودية في واقع الأمر لا تختلف كثيراً عن مصر في الموضوع السوري، والاختلاف الأبرز بينها وبين كل من تركيا ومصر، هو أن الرياض تعتبر إيران جزءاً أساسياً من المشكلة في سورية، وأنها لا يمكن أن تكون جزءاً من الحل، والقاهرة وأنقرة تريان عكس ذلك. هل السعودية مع بقاء النظام من دون بشار الأسد؟ هذا سؤال بسيط ومباشر، لكن إجابته لا يمكن أن تكون كذلك. قبل الإجابة لا بد من معرفة ماذا تعني عبارة «بقاء النظام»؟ ومن سيبقى في هذا النظام ومن سيكون عليه المغادرة؟ وعلى أي أساس سيتم ذلك؟ ما هو موقف المعارضة (المعارضات) من هذا الموضوع؟ وأين سيكون موقعها في مثل هذا النظام؟ ثم فيما لو تمّ تبني مخرج كهذا، فكيف سيؤثر على التحالفات الإقليمية؟ وماذا عن علاقة سورية بلبنان بعد حل الأزمة على هذا الأساس؟ وماذا عن «حزب الله» وترسانة أسلحته الضخمة؟ كيف سيكون موقف روسياوإيران من مثل هذا الطرح؟ ولا يمكن بطبيعة الحال تجاهل رأي تركيا ولا مصر في الموضوع. كثيراً ما يقال إن تغير موقف السعودية من النظام السوري حصل لأنها فشلت في وضع حدّ لتحالف سورية مع إيران، وهذا رأي يتناقض مع التجربة التي عرفتها العلاقات السعودية السورية. لم تكن فكرة التحالف هذه بحد ذاتها هي أساس المشكلة التي انزلقت إليها العلاقات، وأول من وضع أسس التحالف السوري الإيراني كان الرئيس حافظ الأسد، وعلى الرغم من ذلك بقيت علاقته ثابتة ومتينة مع الرياض على مدى ثلاثين عاماً. مرت هذه العلاقة باختبارات كبيرة وقاسية: زيارة السادات للقدس، واتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، والحرب العراقية الإيرانية. في هذه الحرب الأخيرة، كانت السعودية في جانب العراق وكانت سورية في جانب إيران. ثم كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف 1982، فحرب الناقلات في الخليج العربي، أضف إلى ذلك الاجتياح العراقي للكويت، وحرب عاصفة الصحراء، ثم انطلاق ما عرف حينها بعملية السلام في مدريد في 1991، بكل مطباتها ومتعرجاتها. ومع كل تلك الأحداث الجسام صمدت العلاقات السعودية السورية، بل وترسخ التنسيق السعودي السوري في لبنان. لا يمكن القول إنه لم تكن هناك اختلافات بين الرياضودمشق في مقاربة تلك الأحداث الجسام. كانت هناك اختلافات في الرؤية، بل يمكن القول إنه أمام بعض هذه الأحداث كان هناك اختلاف في المصلحة أيضاً. كان من الممكن لاختلاف الرؤية وتباين المصلحة أن يرقى إلى مستوى الصدام، وأبرز -بل ربما أخطر- مثال على هذه الاختلافات كان الموقف من الحرب العراقية الإيرانية. كانت السعودية وسورية على طرفي نقيض من هذه الحرب. وفي السياسة العربية آنذاك كان مثل هذا الاختلاف كفيلاً بتفجير العلاقات بين البلدين، لكن على رغم ذلك صمدت العلاقات إلى درجة أن الأمر بدا وكأنه على العكس من حقيقته. هذا يشير إلى أن القيادة في البلدين في تلك المرحلة كانت تعتبر العلاقة بينهما من الأهمية الاستراتيجية لكليهما، وأنه لا بد من التعايش مع اختلافات لا يمكن تفاديها في السياسة في سبيل الهدف الاستراتيجي لكل منهما، وهذا تحديداً ما يبدو أنه اختلف في السنوات الأخيرة، ويشير إلى أن تحولاً في العلاقة بين الرياضودمشق قد حصل. كل ذلك يشير بوضوح إلى أن علاقات دمشق مع طهران لم تقف طوال حقبة الأسد الأب حجر عثرة أمام علاقات السعودية مع سورية، وتحديداً ما بين 1979، العام الذي حصلت فيه الثورة الإيرانية، و2000، العام الذي توفي فيه حافظ الأسد، وهو ما يعني أنه كان بإمكان الأسد الابن أن يحتفظ بالعلاقة ذاتها مع إيران بعد أن ورث الحكم عن أبيه من دون أن تتأثر علاقته مع السعودية، وهذا ما لم يحدث. الذي حدث كان على العكس من ذلك. بدأت العلاقات تتدهور في شكل تدريجي بعد مجيء بشار الأسد إلى الحكم. ما الذي تغير في دمشق بعد حافظ الأسد؟ هل الأسد الابن أكثر ممانعة وأكثر تمسكاً بالمقاومة من أبيه؟ كيف انقلبت علاقاته مع الرياض إلى عكس ما كانت عليه؟ ينسى أو يتناسى كثيرون أن السعودية هي من وفر الغطاء العربي لدخول القوات السورية إلى لبنان، وذلك في قمة الرياض السداسية في 1976، وهي القمة التي ضمت إلى جانب الملك خالد بن عبدالعزيز الرئيس أنور السادات والشيخ جابر الأحمد والرئيس حافظ الأسد والرئيس إلياس سركيس والزعيم ياسر عرفات. كل هؤلاء رحلوا عن هذه الدنيا. ولا ننسى طبعاً الملك فهد بن عبدالعزيز الذي كان حينها ولياً للعهد، ولعب دوراً نشطاً قبل القمة وبعدها إلى جانب الملك خالد، وهو الآخر رحل أيضاً. كان هذا قبل الثورة الإيرانية. بعد هذه الثورة رعت السعودية مع سورية اتفاق الطائف عام 1989، وهو الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية، وكان من متطلبات التوصل إلى الاتفاق نزع أسلحة ميليشيات الحرب، باستثناء سلاح «حزب الله». كانت الموافقة السعودية آنذاك على هذا الاستثناء بمثابة غطاء عربي إضافي، بجانب الغطاء السوري لهذا السلاح. قدمت السعودية غطاءها على رغم معرفتها بأن إيران هي التي أنشأت الحزب، وهي التي تموله وتمده بالسلاح، والأرجح أن السعودية فعلت ذلك نزولاً عند رغبة سورية، مرفقة ربما بضمانات معينة. مهما يكن، اتضح أن الخطوة السعودية، وقبلها خطوات اللبنانيين أنفسهم، كانت في غير محلها، لأن القضية التي ربما ساهمت في استكمال إنهاء الحرب الأهلية، خلقت مشكلة سياسية ظلت تكبر وتتضخم مع الوقت، وتلاحق الاستقرار اللبناني على مدى أكثر من عشرين عاماً، وهذه المشكلة هي المعروفة حالياً بمشكلة «سلاح حزب الله»، والأسوأ من ذلك أنه مع الثورة السورية حالياً، تأكد للجميع بأن سلاح الحزب هو قبل أي شيء آخر مخزون استراتيجي لإيران في منطقة الشام، تهدد به الثوار السوريين على لسان الأمين العام للحزب حسن نصرالله، بل وتهدد به وبالطريقة نفسها الاستقرار الإقليمي إذا كان هذا يحمي نظام الأسد من السقوط. كانت بداية الانحدار في العلاقات مع التجديد للرئيس اللبناني السابق إميل لحود عام 2004، وهو التجديد الذي فرضه الرئيس السوري على اللبنانيين بالقسر والتهديد. بدا الإصرار على بقاء لحود مؤشراً على أن دمشق كانت مصابة بالذعر، وتفتقد إلى الحكمة، ولا تثق بأحد لم تختبر ولاءه لها. لنتذكر أن التجديد جاء بعد الاجتياح الأميركي للعراق وسقوط النظام هناك، كما جاء بعد حوالى أربع سنوات من تسلم بشار الحكم، وكأن التمديد كان جزءاً من تصفية الفريق السوري الذي كان يمسك بالملف اللبناني. كان هذا الفريق من الحرس القديم، وقد سحب منه الملف اللبناني، لكنه كان معارضاً لعملية التوريث التي حصلت في دمشق. بعد ذلك تم اغتيال رفيق الحريري، وأعقبته سلسة اغتيالات متتالية لعدد من القيادات اللبنانية المعارضة للسياسة السورية في لبنان، وهذه تبدو بدورها عملية تصفية للفريق اللبناني الذي كان مقرباً من الحرس القديم. كان من الطبيعي أن يبدأ منحنى العلاقات السعودية السورية في الانحدار، وكان من الواضح أن دمشق غيرت قواعد التفاهم مع الرياض. لم يكن الرئيس السوري معنياً بمعرفة من الذي اغتال الحريري. كانت كل تحركاته تهدف لطيّ ملف الموضوع، كما كان يحدث لكل الاغتيالات التي سبقته. وكان همّ حسن نصرالله الأمين العام ل «حزب الله»، وحليف بشار الأهم في بيروت، الدفاع عن الرئيس السوري. ثم وجهت المحكمة الدولية رسمياً الاتهام لعناصر من «حزب الله»، فصارت دمشق تدافع عن الحزب. بدا الأمر وكأنه جزء من لعبة سياسية، وليس عملية قضائية جادة: الحزب يدافع عن دمشق، ودمشق تدافع عن الحزب، في تداول للأدوار بشكل لافت. السؤال في هذه الحالة: ما علاقة التوريث بتدهور العلاقات السعودية السورية؟ ليس لأن السعودية، كنظام ملكي، لديها مشكلة مع التوريث بحد ذاته، وإنما لأن التوريث حصل في نظام جمهوري، وخلف الكواليس بطريقة غامضة ومبهمة. هل تغيرت أولويات دمشق بعد التوريث؟ ما علاقة إيران بذلك؟ لماذا صعد نجم حسن نصرالله في عهد بشار؟ وصار من المقربين إلى قصر المهاجرين، على عكس ما كان عليه الحال أيام الأسد الأب؟ كان بشار يخشى من الأميركيين وقد أضحوا إلى جواره في الشرق، وكان يخشى من الحرس القديم وحلفائه في لبنان، ثم وجد نفسه في قبضة خوف أكبر من ذلك وأخطر: ثورة شعبية تطالب بإسقاط نظامه. في تلك اللحظة وجد أن الجميع، ما عدا طهران وموسكو، قد انفضوا من حوله. كيف كانت علاقات السعودية مع سورية في الأيام الأولى للثورة؟ ولماذا انتهت إلى قطيعة كاملة؟ هل كانت السعودية مع الثورة؟ * كاتب وأكاديمي سعودي