بودي أن أقرر أن مسمى "المؤسسة الدينية" لم يكن معروفا في تاريخنا الإسلامي في العهود الزاهرة، فليس في الدولة المسلمة ما هو ديني أو دنيوي، فالأمر تام الامتزاج بين عنصري الدين والدنيا، والحاكم المسلم يطبق الدين في سائر أموره كما يأخذ بكل أمور الدنيا في إدارة شؤون البلاد، وهذا يقود إلى القول: إنه ليس هناك حكم ديني وآخر مدني، وإنما نشأت هذه المسميات في عصرنا الحاضر لمحاولة إبعاد الإسلام من حياة المسلمين. بطبيعة الحال لم يكن للسلطة السياسية أي علاقة سلطوية على القضاة أو رجال الحسبة وكان هذا الواقع يعطي القاضي والمحتسب سلطات واسعة لممارسة أدوارهم دون خشية من تدخل الحاكم في أعمالهم، ولهذا كان الخليفة والوالي وكبار رجال الدولة يتساوون مع سائر الناس أمام العدالة وقد شهد تاريخنا وقائع متعددة كان القاضي يحكم فيها لعامة الناس ضد الوالي أو الخليفة ولم يكن أحد يجرؤ على عدم تنفيذ أحكام القضاء ومن هنا سادت العدالة في المجتمع المسلم واشتد التلاحم بين الحاكم وسائر أفراد الشعب . وفي عصرنا الحاضر وعندما أراد بعض الحكام ممارسة السلطة المطلقة وعدم تطبيق العدالة على أنفسهم ومن يريدون من أقاربهم وسواهم بدأوا بتقييد حرية ما أطلقوا عليه "المؤسسات الدينية" مثل القضاة والمفتين وشيوخ الأزهر وما شابه ذلك من المسميات كما أنهم -أيضا- جعلوا كل الأوقاف التي كانت تحت إشراف أشخاص أو هيئات جعلوها تحت إشراف الدولة وأوجدوا لها وزارات تديرها ولكن بحسب توجيهات معينة أبعدت هذه الأوقاف عن أهدافها ولم تسلم منهم إلا أوقاف الطائفة الشيعية، ولهذا نلاحظ -حاليا- أن علماء الشيعة يتمتعون بحريات لا يجد مثلها علماء السنة لأن علماء الشيعة لا يعتمدون على الدول في رواتبهم مثل إخوانهم السنة الذين تضغط عليهم دولهم لو أنهم خرجوا عن سياستها وتهددهم في أرزاقهم وهذا أضعفهم كثيرا وأبعدهم عن ممارسة دورهم الحقيقي في إصلاح المجتمع وتوجيه الرأي العام بحسب أهداف الشريعة الإسلامية . شيخ الأزهر في مصر لم يكن للدولة شأن في تعيينه وإنما كان ذلك من اختصاص العلماء فهم يرشحون أحدهم ليكون شيخا لهم وللأزهر وعندما كان الأمر كذلك كان شيخ الأزهر أقوى شخصية في مصر وكان يفوق الحاكم أحيانا في قوة تأثيره وهناك شواهد كثيرة يعرفها علماء الأزهر وربما سواهم، ومن أجل ذلك وجد عبد الناصر أن من مصلحته إخضاع الأزهر والمفتي ليسيروا في ركبه قدر الإمكان، فجعل من ضمن اختصاصه تعيين شيخ الأزهر وكذلك المفتي، وقد أثبت التاريخ أن هذا الإجراء أضعف مؤسسة الأزهر والإفتاء كثيرا، وفي هذه الأيام يدور حديث قوي بدأ من الأزهر للمطالبة بالعودة إلى النظام السابق والمفرح أن من يقود هذا التيار هو شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب وهذه خطوة رائعة تحسب له . وأعتقد أنه لو تياره نجح في تحقيق أهدافه فإن مكانة الأزهر ستعود قوية وفي سائر أنحاء العالم الإسلامي لأنه سيكون قادرا على تعيين علمائه وخبرائه وإدارة سائر شؤونه، كما أن مؤسسة الإفتاء التي يشرف عليها ستتغير هي الأخرى كثيرا وسيكون في مقدورها التأثير على كثير من الأحداث في مصر وغيرها .. المصلحة أن يكون تعيين أي مفتي بترشيح من علماء البلد وكذلك هيئة الإفتاء لأن هذا سيجعل هؤلاء بعيدين عن سلطة الدولة وبالتالي سيتحررون من الخوف والخشية على أرزاقهم ومكانتهم الاجتماعية وهذا سينعكس إيجابيا على المواطنين .. الدولة الدينية المرفوضة هي أن تكون جميع السلطات في يد الحاكم الذي يدعي أنه يحكم باسم الله، أما أن تكون الدولة إسلامية بحاكم مدني ومؤسسات مستقلة عن سلطاته فهذا هو الحكم المدني المطلوب. استقلال المؤسسات المسماة حاليا ب"الدينية" خطوة في غاية الأهمية لكي يقوى المجتمع ويشتد التلاحم بين القيادة السياسية والشعوب.