تعيدني دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في قمة التضامن الإسلامي الأخيرة لتأسيس مركز لحوار المذاهب في العاصمة السعودية الرياض، إلى مقال كتبته قبل سنتين ونشرته صحيفة «الوطن» عندما كنتُ أكتب فيها، ولا بأس أن أعود إليه اليوم لأنه يصبّ في نهر الهدف الأسمى لهذه الدعوة الملكية الوطنية النبيلة، فمن يرى أو يتابع كل هذا الجدل التحريضي وغير الجميل الذي يحدث هنا وهناك، بين السنة والشيعة، يعرف جيداً أن هذه الصورة القبيحة لا تعكس حقيقة الناس في المذهبين ولا تكشف صدق واقع الناس البسيط بشفافيته ونصاعته ونزاهته من لوثة الأيديولوجيا وترفعه عن كل ما يحاولون إلصاقه بهذا الواقع لإفساده وإشعاله بأعواد ثقاب الفتنة القبيحة! كتبت يومها عن حدثين متقابلين عشتهما في الحالتين ويجسدان حقيقة أهل المذهبين من عامة الناس وكيف ينظران لبعضهما؟ الحدث الأول قبل عدة أعوام، عندما دعاني الدكتور محمد الرميحي (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب) لحضور معرض دولي للكتاب ضمن مهرجان القرين السنوي في دولة الكويت الشقيقة، وقد كان لكل ضيف من ضيوف المعرض سيارة بسائق خاص به تنقله للفعاليات المصاحبة وإلى حيث يشاء ويرغب داخل الدولة المضيفة، كما هي تقاليد دعوات المهرجانات الثقافية في الكويت. وصادف أن كان يوم الجمعة أحد الأيام الخمسة التي قضيتها هناك، وأذكر أنني نبهت على سائقي أن يأتي إليّ في الفندق في وقت مبكر من ذلك اليوم لكي ألحق بالجمعة من أولها ولتقدم دخولها بساعة أو أكثر في الكويت. المهم أن سائقي جاء مشكوراً في موعده ولم تمر سوى دقائق معدودات حتى أشار عليَّ بالنزول قائلاً هذا هو المسجد، الذي ما إن دخلته حتى رأيته مختلفاً قليلاً عن الجوامع التي أقصدها لصلاة الجمعة، وكانت ساحته الخارجية مملوءة بالملصقات والأذكار والشواهد للشخصيات الإسلامية المجيدة. دخلت المسجد فلاحظت أنني المصلي الوحيد بينهم الذي لم يأتِ حاملاً شيئاً صغيراً يضعه أمامه في موضع سجوده كما يفعلون، ومع ذلك أديت تحية المسجد بطريقتي السنية التي أعرفها وكما أفعل دائماً. نعم شعرت بخوف كبير واستحضرت كل التحذيرات التي تم حشونا بها ونحن صغار من الشيعة، حتى ظننت أنني اليوم هالكٌ لا محالة! فربما ينقضون عليّ قبل الصلاة أو يقذعونني بكل قاموس الشتائم قبل أن يوسعوني ضرباً ومن ثم يطردونني أخزى وشر طردة!! لكن المفاجأة أن أحداً لم يلتفت إليّ، بل أكملت جلوسي بينهم وصليتُ معهم دون أن أسبل أي بطريقتي السنية واستمعت إلى خطبتهم إلى أن خرجت من المسجد، وقد هالني أن أحداً لم يسألني مثلاً: ما الذي جاء بواحد مثلي إلى هنا؟ بل إن واحداً من عشرات المصلين لم يحدجني بنظره لا استنكاراً ولا استفهاماً ولا حتى لقافة!! وخرجت كما دخلت لأجد السائق بانتظاري ضاحكاً.. وقبل أقل من ثلاث سنوات كنت في مدينة جدة أراجع إحدى شركات القطاع الخاص لأكثر من يوم وفي أسابيع مختلفة لكنها متقاربة، وفي كل مراجعاتي وترددي على الشركة كان وقت صلاة الظهر يدخل وأنا موجود هناك فأذهب إلى المصلى الخاص بهذه المؤسسة أعلى البناية، وكانت هناك جماعات تصلي تباعاً بحسب فراغهم من أعمالهم، وكنتُ أرى أيضاً أشخاصاً من إخواننا الشيعة في أركان المصلى وفي جوانبه يؤدون فريضتهم المكتوبة كما يعتقدون، وفي ذات المصلى دون أن يحمل طرف على آخر أو يشنع هذا على ذاك أو يخطئ ذاك هذا!! وكما يلتقون قبل الصلاة بنفس الوجوه الهاشة الباشة المتسامحة يمدون لبعضهم بعضاً بأسباب المحبة والألفة والمودة والتآخي، كانوا يخرجون عقب الصلاة وقد زادوا بشاشة وألفة ومحبة ومودة وتسامحاً وتآخياً!! من هنا، ومن خلال الصورتين السابقتين نوقن، ببساطة، أن الناس، باختلاف مذاهبها، يريدون التعايش مع بعضهم بعضاً ويبقى الدين ومن هو على الصراط الصحيح السوي ومن هو عكس ذلك يبقى ذلك لله ومرده إلى الله هو يحكم بين عباده وهو سبحانه من ينجي ومن يهلك بمشيئته وإرادته، أما ما يدعيه أصحاب التعصب والتحريض سواء من هؤلاء أو من هؤلاء فهو لا يمثل الناس والمجتمع من المذهبين، وهو ليس سوى محض هراء يطلقه رؤوس الفتنة في كل زمان ومكان، وما أكثر هؤلاء المندسين بيننا، ولكن الله على نصر المتسامحين لقدير.. والله من وراء القصد.