بروز العرقية والطائفية والإقليمية إحدى السمات الاجتماعية المصاحبة لتيارالعولمة، وهي نقيضة له إذا كانت العولمة تعني توجه العالم إلى "القرية الكونية" وفتح الحدود وتواصل الشعوب وتقارب الثقافات، وكأن الشعور"بالهيمنة" الحضارية تخيف بعض الشعوب والثقافات فتتمحور حول نفسها وتنكفئ على ذاتها حتى تحميها من ثقافة الأقوى والأكبر. وفي هذا الجزء من العالم برزت الطائفية والعرقية والإقليمية خلال الثلاثين سنة الماضية منذ قيام الثورة الإيرانية بشعاراتها ومشاريعها وما صاحبها من اضطرابات سياسية واقتصادية وتدخلات أجنبية، والنماذج المضطربة في باكستان والعراق ولبنان واليمن والسودان، كلها تؤكد خطر هذه النزاعات على وحدة الأوطان وسلامة أهلها وأمنها واستقرارها. ونحن في هذه البلاد لسنا في جزيرة معزولة عن محيطها، نؤثر ونتأثر بما حولنا ونتفاعل معه، وتنعكس علينا آثارها سلبا وإيجابا. وقد مرت بلادنا بتجربة قاسية حين واجهت بعض التنظيمات المتطرفة التي تستخدم العنف وسيلة للتعبيرعن أهدافها، وكان من أسباب هزيمتها "وحدة الوطن" وإدراك أبنائه أن الوقوف في وجه هذا التيار ضرورة لحفظ الوطن من تعريضه إلى التهديد. ومسألة الطائفية بمفهومها الكريه بغض الآخر والانحياز ضد مصالحه وظلمه لم تكن ظاهرة في بلادنا قبل اختلاط الاعتقادات الدينية بالأهداف السياسية، وتوظيف "الاختلاف" في تحقيق المطالب، واستخدامه كوسيلة ضغط على المختلف. واليوم ترتفع أصوات طائفية تستدعي حالة من الاستقطاب والاصطفاف وخلق جو من "الكراهية" والتوتر تهدد استقرار الوطن، وسكينة وأمن أهله، وتختلط فيها المفاهيم وتلتبس على البعض الأهداف المعلنة. وأعتقد أن مصلحة الوطن وحمايته والوقوف في وجه كل من يريد إلحاق الأذى بأهله تستدعي قدرا كبيرا من الوضوح والمصارحة، وفرز"الخيوط" حتى لا يلتبس الحق بالباطل، ويجد أصحاب الأهداف المشبوهة مناخا يزيد فيه تشويش رؤية المواطنين، وتشكيكهم في معاني الاتفاق. لا بد من المصارحة والمكاشفة وفضح أصحاب "مشاريع تفتيت" الوطن وتعرية مواقفهم وكشف ارتباطهم بالخارج مهما كان هذا الخارج وأهدافه، و"عزلهم" عن ذريعة تمثيلهم لأي مجموعة إقليمية أو طائفية، و"محاصرتهم" في فئتهم القليلة التي تلتف معهم في الأهداف والوسائل. الخطاب الذي يعمق النزاع الطائفي بين السنة والشيعة خطاب "غير وطني" ويتغافل عن قيم الدين التي تدعو إلى "الجماعة" وتعميق مفهوم ومعاني التسامح، وزيادة تأثيره وربطه بسلوك بعض الأفراد من الطائفيين لا يخدم مشروع الوحدة الوطنية القائمة على حق المواطنة، الذي يضمن لأهل هذا الوطن بكل طوائفهم وفئاتهم ومناطقهم العيش بسلام، وبفتح الفرص أمامهم بلا تمييز أو انحياز. وهذه القيمة المواطنة تعني أن نعترف بالاختلاف ونقبل به ونخدمه ونبحث عن "المشترك" الذي يوفر لنا شروط التعايش السلمي، وأن يخدم المختلف رموز الآخر ولا يقدم على ما يستفزه ولا يقبل به داخل مجموعته أو طائفته، وأن يعمل الجميع على إزالة أسباب "الاحتقان" ومغذياتها من مشاعر وأفعال. لا بد من الوضوح والصدق والصراحة في تقدير الأخطاء من جميع الأطراف وأن يكون نقدا موضوعيا محددا، وأن نرفع عن أنفسنا "الخوف" من الاتهام بأننا ضد أي طائفة فلا يكون النقد الموجه إلى أعمال وتصرفات أفراد طائفية معنية "دليلاً" على كراهيتها. "التنازع" الشيعي السني له مستويات، بعضها يتغذى على اختلافات تاريخية ليس للحاضر فيها دخل، وللأسف فإن "البعض" لا يريد لنارهذا التاريخ أن تخمد، فلا يمل من زيادة وقودها وحطبها، وبعضها ملتبس بالمصالح السياسية و"المغالبة" الدولية والنزاع الإقليمي والمظالم المحلية. والمستفيدون من هذا "التشابك" كثيرون، وحتى لا تختلط الأوراق، فنحن محتاجون إلى فصل النزاع التاريخي عن نزاع الحاضر، ونفصل الأسباب عن بعضها، فالتعامل مع الماضي بكل تراكماته العقدية والأسطورية يمكن أن يظل محصورا في دائرة البحث العلمي بين أهل الاختصاص، أما نزاع الحاضر فهو الذي يقتضي العناية به، وفحص مكوناته وتقدير بواعثه، فما كان مستندا إلى الواقع الداخلي، يتم التعامل معه بما يحقق المزيد من التوافق على الأسس الوطنية، وما كان ناشئا عن الارتباط الخارجي فيتم توصيفه وتحديد أهله وكشف خيوطه. بلادنا وقفت ضد تيار القاعدة السني وحاربته بكل الوسائل وتعاملت مع دوائره المختلفة القاتل والداعم والمحرض والمفكر ولم تنظر إليه نظرة طائفية بل تعاملت مع المتورطين فيه بعيدا عن الطائفية. واليوم تواجه البلاد بعض الداعين إلى العنف من الطائفة الشيعية، ويقتضي الأمر التعامل معهم بالمنهج نفسه الذي يحصر الفعل على الفاعل، ولا يتجاوزه إلى منطقته أو طائفته.