محمد بن عيسى الكنعان - الجزيرة السعودية عادةً تثور عاصفة الجدل حول المسلسلات التاريخية، التي تتناول فترتي العهد النبوي والراشدي، بعد نهاية عرضها خلال شهر رمضان المبارك، حيث تزوّد كل فريق بما يدعم حجته ويعزز منطقه، سواءً في رفض هذا النوع من الأعمال الدرامية أو تأييدها. غير أن هذا العام كان الوضع مختلفاً، فقد ثارت عاصفة الجدل قبل حلول شهر الصوم بسبب اسم المسلسل التاريخي الضخم، المزمع عرضه على بعض القنوات الفضائية العربية، ألا وهو (عمر)، الذي يستعرض بطريقة درامية سيرة أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، عمر بن الخطاب، الفاروق رضي الله عنه، أحد أعظم شخصيات تاريخ الإسلام على الإطلاق بعد أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فما الذي جرى بين مؤيدي المسلسل والرافضين أو المعارضين له؟ دارت حوارات تلفزيونية ساخنة بين معبرين عن الفريقين، وحُررت كتابات ونقاشات صحافية وأخرى إلكترونية عبر منتديات (الإنترنت)، وأطلق بعض المغردين على (تويتر) موضوعاً (هاشتاق) يحمل عنوان: أوقفوا مسلسل الفاروق، فاختلف المغردون أيضاً بين إيقافه والسماح به، كما وُضع تصويتاً ب(نعم أو لا) للمسلسل! حتى زعم أحد مغردي (تويتر) أن إحدى القنوات الشهيرة، التي ستعرض المسلسل أفادت أنه في حال تجاوز التصويت ضد المسلسل حاجز المليون لن يتم عرضه!! والجدل ما زال مستمراً! بتقديري الشخصي أن مؤيدي المسلسل نجحوا إلى حدٍ ما في إقناع شريحة كبيرة من المشاهدين بأنه لا إشكال في (مسلسل عمر بن الخطاب)، المتوقع عرضه في رمضان هذا العام، رغم تجسيد الفاروق رضي الله عنه شخصية محوريةً في هذا المسلسل، ما يُعد سابقة في تاريخ جميع المسلسلات والأعمال التاريخية، لأن الحكم الموضوعي على المسلسل -حسب رأيهم- يكون بعد عرضه كاملاً وتقويمه بعقلانية ومحاكمته بتجرد، من حيث صحة النص وطريقة الأداء ومستوى التعبير عن الشخصيات وعرض المشهد عموماً، والأهم من كل ذلك مدى ارتباط ذلك بشخصية الفاروق، سواءً بالإساءة والسلبية أو إبرازها بشكل إيجابي، حيث أكد المؤيدون موقفهم من خلال خمس مسائل رئيسة، الأولى: حكم (تجسيد شخصيات الصحابة في الأعمال التمثيلية)، بمعنى أنه لا يوجد نص قطعي يُحرِّم ذلك، وأن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يطرأ عليها ما يُحيلها إلى دائرة التحريم! فإذا كان هناك علماء وفقهاء معتبرون قد حرموا أو رفضوا هذا المسلسل وأمثاله، ففي المقابل هناك من أجاز ولم ير التحريم، فالعبرة في المقاصد والمصالح لأن المسألة خلافية. والمسألة الثانية: هي (واقع الفن والتمثيل) بما في ذلك شخصيات الصحابة الكرام، فهي معاصرة في زمانها، واجتهادية في طبيعتها، وأن التمثيل بعمومه لا يعد انتقاصاً أو عملاً مسيئاً، بحيث تكون تطبيقاته مرفوضة. المسألة الثالثة: أن الدراما التاريخية صارت واحدة من أبرز الوسائل التوعوية والأساليب التثقيفية للناشئة والأجيال المعاصرة، الذين لم تعد القراءة تستهويهم إلا في جانب الفكر والرواية، كما لم يعودوا يُقبلون على معرفة تاريخهم بأسلوب التلقين التعليمي أو المحاضرات الثقافية والندوات العامة، خاصة ً في ظل طفرة (الإنترنت) ووسائل الاتصال الحديثة وتبادل المعلومات العابرة للعقول، فما بالك وهناك من يحاول استعمار عقول الأجيال من خلال الأعمال التاريخية. المسألة الرابعة: وهي امتداد للثالثة أن الحضور الإيراني السينمائي صار قوياً وفاعلاً في الساحة العربية، حتى راح يختطف تاريخنا الإسلامي، وبالذات فترة صدر الإسلام ويُعيد صياغتها وتشكيل أحداثها وإظهار شخصياتها وفق رؤيته المذهبية المتفقة تماماً مع أهدافه السياسية ومشاريعه القومية الصفوية، ويكفي أن نعرف أن الطائفيين من سياسيين وإعلاميين ومسئولي القنوات التلفزيونية في إيران والعراق ولبنان قد جُن جنونهم من مسلسل (الحسن والحسين)، الذي عُرض في رمضان العام الفائت 1432ه، ليس بسبب تجسيد شخصيتي السبطين رضي الله عنهما، إنما لأن المسلسل أظهر شخصية معاوية رضي الله عنه بطريقة إيجابية تعارض تماماً روايتهم وأكاذيبهم المعتادة. وفي سياق تأييد مسلسل الفاروق ضرب الأستاذ عبد الله القرشي مدير عام قناة (دليل) مثالاً بفيلم (عمر المختار)، الذي أثرّ في الذهنية العربية بشكل كبير عن هذا المجاهد الليبي العظيم. أما المسألة الخامسة فتتعلق بإدراك المشاهد للفارق الكبير والواضح بين الشخصية الحقيقية (التاريخية) والشخصية الافتراضية (الممثل)، فدور الثانية تقريب الرؤية وتسهيل الفكرة حول الأولى وليس التعبير عنها بتطابق تام. في المقابل نجد أن المعارضين للمسلسل والرافضين له ارتكزوا على أربع مسائل يرونها مهمة مع قولهم بالتحريم نظراً لارتباط ذلك بأمور أخرى محرمة (حسب موقفهم الشرعي)، الأولى وجود الموسيقى المصاحبة في كل مشاهد المسلسل، والثانية وجود ممثلات (نساء) يظهرن بصور متبرجة ويختلطن بالرجال أمام الكاميرا في المشاهد وأثناء إعداد العمل، والثالثة أن تجسيد عمر بن الخطاب هو إساءة واضحة لشخصيته بسبب الممثل، الذي يقوم بهذا الدور، بحكم الفارق الكبير بين الشخصيتين، خصوصاً أن معظم المعارضين هم بالأساس يرفضون التمثيل باعتباره وسيلة تعليم أو تربية أو تثقيف عن تاريخ الإسلام، إضافة إلى ذلك تمثيل زوجة عمر ما يعد في نظرهم تعدياً على عرض عمر، لأنه لا أحد يقبل أن تمثل زوجته فكيف بعمر؟، أما الرابعة فهي تأكيد المعارضين مسألة وجوب استئذان عمر في تجسيد شخصيته! وهم هنا يضعون المستحيل أمام القائمين على المسلسل أو المؤيدين له! رغم أنه يمكن للمؤيدين القول: وهل الرافضون يملكون حق الحديث باسم عمر؟ يبقى أن أشير إلى نقطة مهمة كان من المفترض على المعارضين أن يركزوا عليها وبها تقوى حجتهم مقابل المؤيدين، وهي مسألة عدم ضمان تغيير نصوص أو مشاهد تعارض الرواية الصحيحة لسيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه! فإذا كان القائمون على المسلسل لا يضمنون ذلك، فهذا دليل على أن المسلسل فيه مشكلة فعلية منذ البداية وقبل العرض! بل يمكن الطعن في نواياهم! لأن ذلك يخالف تصريحاتهم التي يؤكدون فيها أن قصدهم إبراز الشخصية العظيمة للفاروق رضي الله عنه. لكن المعارضين اتجهوا إلى منطق العاطفة، بينما المؤيدون استخدموا منطق العقل الذي نسف حجج خصومهم وتحديداً في مسألتي (تحريم تمثيل الصحابة) أو (اعتبار التمثيل إساءة).