طوى الخبر الحزين آلاف الأميال ليكدر عليّ صباح يوم مشرق جميل في مدينة صاخبة متألقة تضج بالحياة والحركة. يوم السبت أول يومي عطلة نهاية الأسبوع في مدينة دنفر الكبيرة المستلقية في أحضان جبال الروكي الشاهقة. يُخيل إليّ أن سكون الموت المهاب قد عطّل الحركة التي لا تكاد تهدأ، وألقى عليها ظلالا من الروية والحزن والسواد. مات الأمير نايف.. كُتبت له الراحة بعد سِفر طويل من عمل مرهق كبير. قضية الأمن الداخلي ليست مهمة سهلة إطلاقا. وتتضاعف صعابها وتتزايد مشاقها وتكبر مسؤولياتها في دولة بحجم المملكة العربية السعودية تمتد مئات الكيلومترات في كل اتجاه جغرافي، وتحيط بها دول شقيقة وصديقة، وأخرى تزعم حبا وهي منه براء. وفي السنوات العشر الأخيرة تتابعت الأحداث بسرعة، وتغيرت المتغيرات من نقيض لآخر حتى لا يكاد يواكبها حكيم ولا خبير ولا عالم. 38 سنة قضاها الأمير نايف وزيرا للداخلية، وعدة سنوات نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء، ثم وليا للعهد منذ شهر ذي الحجة الماضي. عاصر الأمير الراحل ثلاثة ملوك، وهو يدير حقيبة الأمن في هذا الوطن الشاسع الكبير المستهدف من أعداء له في الخارج بأساليب وحيل شتى، ومن أعداء في الداخل أرهبوا الناس وضلوا الطريق وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. إنها سيرة ذاتية مبهرة وعمل شاق متعب ومهام عسيرة مضنية. لم يكن الأمير الجليل رجل الأمن الأول فحسب، وإنما كان وتدا شامخا من أوتاد الحكم في البلاد، يرسم سياستها الأمنية, ويشارك في رسم خطاها الإقليمية والدولية، فهو سياسي محنك وقائد موهوب ورجل دولة من الطراز الأول. والذين عايشوا الأمير عن كثب واحتكوا به في ميادين العمل أدركوا مدى سعة صدره وحسن تقبله للرأي والرأي الآخر، لا يتعجل الحكم على الأمور، ولا تستفزه الأحداث تعجلا أو تهربا. كان يجيد قراءة ما بين السطور وما تحت السطور وما تعنيه السطور. اليوم يغيب الأمير الجليل بشخصه المهاب، لكن تبقى سيرته العملية الطويلة وسياساته الأمنية الحكيمة معالم تنير الطريق وتؤصل النهج لمن سيليه حاملا للأمانة، وأي أمانة! رحم الله الأمير وأسكنه جنانه وأسبغ عليه رحماته.