تأملاتُ الاثنين -1 - من أشد الأمور تدميراً للهمّةِ الذاتية تصديق بعضنا المنقطع بأننا بلا خيار، بفعل مُربِكاتٍ خارجية وزوغان عقلي داخلي يسبّب عطلاً وغبَشاً في مرصد حكمتنا وميزان منطقنا، فنعيش وهْماً آسراً بأننا مسيَّرون على سكةٍ واحدةٍ لا حيلة لنا إلا السير عليها، ولو انقطعتْ السكةُ لانقطعنا معها كحالٍ نهائي وظرفٍ حتمي. أحيانا يتملكنا هذا الوهم بأن لا خيار لنا؛ إما أن نقبل وإما أن نترك، ولا خيار آخر. ثم إننا ننتظر حتى هذا الخيار الضيق والظالم أن يُملى علينا ونقبل الإملاء بتناول السلاسل وتقييد عقلنا وإرادتنا الحرة بأنفسنا. الحقيقة، سواء قبلناها أم لا، هي أننا نملك الخيار، وأن الخيارات موجودة، وما مسيرة البشرية عبر صعابٍ بدت مستحيلة العبور في وقتها إلا لإيمان بعض البشر بالبديل وبالخيار.. بحريّة الإرادة للاختيار. - عجيبٌ أننا لا نشغّل أحياناً مداركنا حتى لإدراك الصورة وتخيّل المشهد. إن الوهمَ بأن لا خيار إلا خيار يُملى علينا - يجعلنا نسير بإرادتنا الواعية، أو هي غير الواعية، إلى موقع الكمين، ثم حتى لا نحاول الخروج من الكمين، بينما محاولة الخروج منه من المفروض أن تكون ردّاً طبيعياً غريزياً عضلياً تلقائياً. هناك قصة للأوكراني بولتوف عن أرنبٍ وقع في شرك، وصار يراقبه الصياد الذي أعدّ له المصيدة، وعجب أن الأرنبَ لم يهدأ ولا لحظة يريد الخلاص، يدور ويعضّ ويعود بكرّاتٍ أخرى لا تنقطع يبحث عن ضعفٍ في الشبكة.. قدم له الصيادُ الطعامَ بعد أن تعارك الأرنب مع مصيدته لساعات، على أن الأرنبَ عاف الأكل، واستمر في المقاومة لا تهدأ له عضلة، لأنه اختار الحرية، كان خياره الحرية، وكان خيار الصياد الطعام.. مجرد أرنب! إن المأزق ليس هو الذي يكبّل خيارنا.. إنما يكبّله قبولنا بالمأزق. - إن الخيارَ جزءٌ مهمٌ من كينونتنا البشرية، من قوة وجودنا على الأرض، حتى أني أكاد أعتقد أن من يؤمن بأنه يملك الخيار فهو موجود، ومَن يعتقد أنه مسلوب الخيار فقد سلب من نفسه الوجود. ما يميز النوع البشري هو قدرته على أخذ القرارات، وقدرته على الخيارات، واستجابته للتحدي باختراع الحيل والبدائل. تقول أنثروبولوجيا الحضارات إن الشعوبَ الأكثر عرضة للتحديات الحياتية هي التي تقدمت. تعلمون أن حضارات الفراعنة وحضارات ما بين النهرين إنما هي شعوب خرجت من جزيرة العرب حيث الجفاف وجفاء عناصر الطبيعة، ورحلت بتحدٍّ للمسافات والظروف إلى مناطق الأنهار وعناصر البيئة الأفضل فبنت الحضارات، بينما بقيت شعوبُ الجزر والمناطق الاستوائية عصية على التطور لأنها عاشت وكل أمور الحياة الجميلة حولها؛ المياه والخضرة والصيد الوافر والثمار بأنواعها تتساقط من الأشجار.. فلم تكن هناك قوة كافية تجبرهم على الاستجابة للبحث عن الحيل والتحايل للارتقاء بمعاشهم. وهنا لما تتأمل، صحيح أن هذه الجزر هي جنان في البحار، ولكن أين النعمة الحقيقية: نماء العقل أم كسله؟! أترك لكم الجواب. - إن الذي يحدّد الفرق بين الحرية والعبودية، أن الحرية أرضٌ واسعة كلها خيارات، وأن العبودية زنزانة ضيقة بلا خيار. لا تجعل أي أحد يسلب منك إرادة الخيار.. فالحرية هي أن تملك الخيار.. بلا تبرير، بلا أعذار.