سلطان بن عبدالرحمن العثيم - الحياة اللندينة أفرز الربيع العربي ورياح التغيير التي هبت على البلدان العربية حالاً من التباين والانقسام الملاحظ، فسقط الاعتقاد السائد أن المشروع الإسلامي في المنطقة، الذي عانى ما عانى منذ عقود، منسجم في بنيته العامة من حيث الأهداف الكبرى والأفكار المركزية والمشروع الاستراتيجي، سقط هذا الشعار الوردي وأضحت الانقسامات والتصنيفات سيدة الموقف، بل هي الغالبة على المشهد العام وهي المتحكمة في اتجاهاته وتوجهاته، وأفرزت هذه الحالة قدراً كبيراً من التخندق والاصطفاف الواضح، كلٌ بما لديهم فرحون. وعلى رغم أن الظروف الاستثنائية التي تمر بها المنطقة، إذ مشاريع التغيير والثورات الشعبية والمراجعات العميقة والمحاولات الجادة من عدد من القوى والتيارات للخروج من الوضع المأسوي التي تعيشه هذه المنطقة من العالم منذ أكثر من قرن، وتحديداً من السنوات الأخيرة للخلافة العثمانية، واستشراء الفساد والاستبداد والاستعباد، وبداية مراحل الضعف، ثم التخلف، ثم التفكك، ثم الاستعمار، ثم التقسيم المؤدي للتحجيم الذي أعقبه الخروج المادي والمحسوس للاستعمار، وبقاء روحه ومشروعه، إذ الهيمنة على القرار السياسي ومواطن القوة ومنابع الطاقة والنفط وإدارة المنطقة وإحكام السيطرة عليها باستخدام إستراتيجية القوة الناعمة المتمثلة في استخدام المال والإعلام والتعليم، وإشغال المنطقة بالصراعات البينية والحدودية لصرفها عن التنمية والبناء والنهوض، وجعلها سوقاً استهلاكية دائمة لما تنتجه الدول الكبرى، وسوقاً كبيرة تباع فيها كل شيء، ابتداء من أصغر المنتجات وأبسطها، وانتهاء بالأسلحة وتجارة الحروب، وهذا ملاحظ منذ زمن، إذ غياب التنمية المستدامة وقوى الإنتاج الحقيقي، على رغم توفر أفضل وأقوى المقومات، وهنا نذكر للاستشهاد والمقاربة تجربة مصر مع القمح، وهي التي تعوم فوق أكبر أنهار العالم، ولكنها تستورد غذاءها الرئيس، وقس على ذلك من تعطيل ملكات الإنتاج والإصرار على أن نكون اليد السفلى المستحقة للدعم والمساعدة والإسناد في مجالات عدة. كل هذا الظروف الصعبة التي مرت بها هذه البقعة من العالم، وإنسان هذه الأرض، تجعل الحليم حيران أمام هذه الحال المتقدمة والغريبة من هوس التصنيف والاصطفاف والتنافر الذي أدى أحياناً بالحال الإسلامية إلى أن تذهب طاقتها وأوقات كوادرها وقياداتها بإدارة الصراعات الجانبية والمهاترات المفتعلة والصدامات الدائمة مع أفراد البيت الواحد التي دائماً ما تكون في الفروع والجزئيات التي يكون الاختلاف فيها مسوغاً ومبرراً وربما مهماً وضرورياً للحفاظ على خاصية مرونة الشريعة التي تجعلها قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان. هذا يجعلنا نطرح تساؤلاً حول نضوج التجربة الإسلامية من عدمه، أم أن الحال الإسلامية لا تزال تعاني من صراع الأولويات والمراهقة الفكرية والتخبط المعرفي الذي يفرز حال المشاغبة والجدل، أكثر من ميلها إلى تبني مشروع إسلامي نهضوي حضاري شامل وجامع، يقوي الضعف ويجمع الشتات، وينهي الاستعمار والاختراق، وينهي حال التخلف، ويعمر الأرض وينشر دين السلم والسلام في المعمورة، ويسمح لجميع طاقات المجتمع ومكوناته، بمن فيهم التيارات الوطنية والقومية، بالتكامل مع هذا المشروع القومي والأممي في آن معاً، والتقارب معه حيث يتحول هذا المشروع إلى مربع جذب وبؤرة استقطاب إيجابي لكل مبادر مخلص صادق، بغض النظر عن تصنيفه أو وسمه أو مستوى تدينه. فالاختلاف في الفروع والجزئيات لا يعني التناحر والصدام والعزلة، بل استمرار الحوار والتنسيق والتكامل والمراجعة، وذلك سوف يصنع لنا جبهة وطنية قوية تقودها الحركة الإسلامية ذات القبول الشعبي الواسع مع التيارات الشقيقة والقوى الشبابية، التي تحمل طاقة التغيير وأفكار التنوير، وتحلم بمشروع متكامل ينطلق من الأطروحة الإسلامية وهويتها الخاصة والمرجعية السماوية، ويأخذ بأدوات العصر بلا خوف أو تردد أو بطء أو توجس، وهنا يأتي واجب التيارات الإسلامية المختلفة في الإجابة عن عدد من الأسئلة الكبرى، والوقوف على معالمها، والتأمل فيها ملياً لتضييق هوة الخلاف وتخفيف حدة الصراع، ومن أهم تلك الأسئلة: هل أضحت هذه التيارات مقتنعة بتقديم فكرة المشاركة على المغالبة، والتكامل على التخندق، والتجديد على الجمود؟ هل هي قادرة على الجمع بين الانسجام مع الذات والتعايش مع الآخر؟ وماذا عن الجمع بين الأصالة والمعاصرة؟ وماذا عن الحفاظ على الخصوصية ولكن بلا انغلاق؟ وماذا عن التفاعل مع الجميع ولكن بلا ذوبان؟ وكيف نوائم بين فكرة الشورى والحكم الرشيد وفكرة الديموقراطية؟ وما شكل الدولة الإسلامية الحديثة، أهي مدنية بمرجعية إسلامية، أم دينية بأدوات مدنية؟ وما توصيفنا الدقيق لأهل الحل والعقد؟ وهل الشورى معلمة أم ملزمة؟ وهل يغلب علينا في ما نطرح الفكر الانفصالي أو الفكر الائتلافي؟ وهل هناك تصور استراتيجي مؤسسي لمستقبلنا، أم أن العمل قائم على الاجتهادات المتناثرة؟ الأعمال الفردية هي أسئلة كبرى سوف تشغل الشارع الفكري والوسط الشرعي والعلمي والكوادر الشبابية لفترة، ولكن من الأسلم والأقوم الإجابة عنها بهدوء وعمق والانتهاء من تأصيلها سريعاً للتأسيس لمرحلة مقبلة واعدة ومبشرة. وهنا نشير إلى أن إقبال الشعوب إلى انتخاب الإسلاميين والإيمان بمشروعهم التاريخي ليس حالاً سرمدية دائمة، بل إن مزاج الشعوب طابعه التقلب والتحول، وهذه الفرصة الكبرى للقوى والتيارات الإسلامية والوطنية على الانفتاح على بعضها البعض، والتركيز على القواسم المشتركة والمشاريع التنموية الجادة، وحل المشكلات والتحديات الكبرى التي تعتري الأوطان والمجتمعات، وسد رمق الشعوب، والارتقاء بها، وطرح مشروع متكامل ينهض بإنسان هذه الأرض المسحوق، الذي يتمنى أن يكون قد اقترب من الضوء الذي في نهاية النفق، والماء الذي يبحث عنه في واحة الصحراء، فهو متعطش لعالم جديد غير الذي عاش فيه والده وجده، إذ يحلم بأن ينعم ولده وحفيدة بحياة كريمة، يستمع فيها لصوته وتحفظ كرامته وتطلق طاقاته، ويشارك الجميع في القرار وبناء الأوطان بفاعلية، ويعيشون حقيقة العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها التشريع وهي معطلة واقعياً. إن سرعة نضوج الحال الإسلامية، صاحبة الشعبية الكبرى في المنطقة العربية ومحيطها، لهو من أبرز التحديات الجسيمة التي يعني تجاوزها الانتقال إلى مرحلة الرشد الفكري، والعمق السلوكي، والبصيرة الشرعية، والفهم المقاصدي للدين والمشروع الإسلامي الحضاري، إذ عطلت ملكات الإنسان لعصور طويلة في عمارة الأرض والدعوة إلى الله، فمئات الملايين حول العالم لا يعرفون عن الإسلام إلا اسمه، وقد لا يعرفونه، وملايين المسلمين يجهلون جوهر دينهم، إذ يتعاملون معه على أنه طقوس مفرغة، وحركات بلا مضمون، وهي رسالة الله الأخيرة للبشرية، لخير دنياهم وشرف آخرتهم، وهي الرسالة ذاتها. التي كلفنا بها الله لتكون رحمة للعالمين. إن إدراكنا لحساسية المرحلة يتطلب منا أن نكون على أعلى درجات المسؤولية، وأن ندعو إلى كلمة سواء تجمع ولا تفرق، وتحتوي المخالف ولا تنتقم منه وتفتك به، وأن نؤمن بأهمية اختلاف التنوع وفضله على البشرية عبر الزمن، فخيار الوحدة والتقارب والتلازم هو خيار الأمم التي سوف تبقى، ونقيض ذلك تقسيم ثم تفتيت ثم انقضاض، كما أننا لا نغفل أهمية الاستفادة من جميع التجارب الإنسانية الناجحة، وكل ذلك يمثل المخرج لأمة ليس أمامها لتنجو إلا الإيمان بمشروع نهضوي جامع، تنطوي تحته الكثير من الطاقات والأفكار والممارسات والمبادرات، فالوصول إلى بر الأمان يعني نجاة الجميع وتحقق الرسالة والهدف. نحن الآن في لحظة تاريخية حاسمة وفارقة بين تحدي الشروق المبهج، أو الغروب الذي ينتظر شروقاً آخر قد لا يأتي.