د. فيصل بن منصور الفاضل - الاقتصادية السعودية يأتي صدور نظام التحكيم الجديد ترجمة عملية للسياسة، التي رسمتها الدولة للتنمية الوطنية بصفة عامة ونقلة نوعية في مسيرة الإصلاحات، التي تبذلها في تطوير البيئة العدلية في المملكة بصفة خاصة. كما أنه يعكس إدراكاً واعياً بطبيعة المرحلة، وما يواجهه الوطن من تحديات وما يتطلبه العصر الحديث من مواكبة للمستجدات، وما ترتبه الاتفاقيات والمعاهدات، التي وقعتها الدولة من التزامات ومن ضمنها اتفاقية نيويورك الخاصة بتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، التي انضمت إليها المملكة عام 1994، وتفرض على الدولة العضو في الاتفاقية القيام بخطوات عملية تطويرية لنظام التحكيم لديها. وقد تضمن هذا النظام تطويرا كبيرا في الأحكام المنظمة لعملية التحكيم بدءاً باتفاق التحكيم واختيار هيئة التحكيم، ومروراً بإجراءات التحكيم وإجراءات الفصل في الدعوى التحكيمية وانتهاء بصدور الحكم من هيئة التحكيم وحجيته وحالات الطعن عليه. ومن أهم جوانب التطوير، التي تضمنها هذا النظام الجديد تعزيزه القوي لمبدأ استقلالية أطراف التحكيم Party Autonomy ومنحه أطراف النزاع الحرية في اختيار التحكيم كوسيلة لحل ما قد ينشأ بينهم من نزاعات تعاقدية كانت أم غير تعاقدية، والحرية في اختيار المحكمين بغض النظر عن معتقدهم أو جنسهم، والحرية في اختيار اللغة والمكان، وكذلك الحرية في اختيار كلٍّ من النظام الإجرائي والنظام الموضوعي اللذين يرغب الأطراف في تطبيقهما على النزاع شريطة ألا تخالف النظام العام. كما تضمن هذا النظام العديد من النصوص، التي تصب بشكل قوي في تعزيز الدور المساند للقضاء الوطني للتحكيم The role of national courts، وهو ما يعد تغييرا جذريا في نفاذ أحكام المحكمين، التي ظلت قابلة للاعتراض وفقا للمادتين رقم (18- 19) من النظام السابق اللتين كان يمكن بموجبهما الاعتراض على حكم التحكيم في الجهة المختصة بنظر النزاع، فأصبحت أحكام التحكيم التي تصدر وفقا لأحكام النظام الجديد غير قابلة للطعن فيها بأيٍّ من طرق الطعن عدا رفع دعوى بطلان حكم التحكيم لمحكمة الاستئناف، وفقا للأحكام والأسباب المبينة في النظام والمحددة على سبيل الحصر، وليس من بينها الطعن في موضوع الحكم. لقد جاء هذا النظام تتويجاً لجهود جهات عدة، في مقدمتها وزارة العدل ووزارة التجارة والصناعة والهيئة العامة للاستثمار وهيئة الخبراء بمجلس الوزراء ومجلس الشورى ومجلس الغرف التجارية والصناعية، وثمرة لدراسات وبحوث علمية متخصصة في التحكيم، وبدعم ومساندة كبيرة ومستمرة من قبل عرّاب التحكيم ومؤسسه في عصر المملكة الحديث سمو الأمير الدكتور بندر بن سلمان بن محمد آل سعود مستشار خادم الحرمين الشريفين ورئيس الفريق السعودي للتحكيم الذي كان يقف خلف هذه الجهود الوطنية، التي أثمرت عن صدور هذا النظام. ومن المتوقع أن يزيد نظام التحكيم السعودي الجديد من إقبال الأفراد والشركات على اختيار التحكيم كوسيلة لحل النزاعات في المملكة بعد أن ساير النظام ما هو معمول به في قوانين التحكيم المتقدمة في تنظيم هذه الوسيلة والاعتراف الواضح والقوي بها والتشجيع عليها ومساندتها في جميع مراحل عملية التحكيم، ومن المتوقع أن يساهم هذا النظام في تحسين تصنيف بلدنا في المؤشرات التي تعنى بالتنافسية ومدى جاذبية بيئة الاستثمار، خصوصا معيار إنفاذ العقود، إذ إن تصنيف المملكة، وفق هذا المعيار يأتي في مرتبة متأخرة. ولكن من المهم القول بأن صدور هذا النظام يظل خطوة في حاجة إلى أن تعقبها خطوات من أهمها أن تضع هذه الجهات وفي مقدمتها وزارة العدل خططها لتفعيل نصوص هذا النظام الجديد وتحقيق ما يحتاجه من متطلبات من أجل تطبيقه، خصوصا ما يتعلق بإعداد مشروع اللائحة التنفيذية لهذا النظام ورفعها تمهيدا لصدوره من قبل مجلس الوزراء تنفيذا لما نص عليه قرار مجلس الوزراء رقم (156) وتاريخ 17/5/1433ه الذي تضمن قيام وزارة العدل ووزارة التجارة والصناعة بالتنسيق مع المجلس الأعلى للقضاء والجهات الأخرى ذات العلاقة بإعداد مشروع اللائحة التنفيذية لهذا النظام ورفعها تمهيدا لصدورها من قبل مجلس الوزراء بناء على ما ورد في المادة السادسة والخمسين من النظام. ومن الضروري أن تراعي هذه الجهات في إعداد مشروع هذه اللائحة انسجام أحكامها وموادها التفصيلية والتفسيرية مع الأهداف والغايات من صدور نظام التحكيم ومن أهمها مواكبة المستجدات، والوفاء بما التزمت به الدولة أمام المجتمع الدولي بموجب المعاهدات والاتفاقيات الدولية فليس من الحكمة أن نتقيد بمذهب واحد وربما وجهة نظر مترددة ولا يخالف عدم الأخذ بها ثوابت الدين، وتكون المملكة البلد الوحيد في دول العالم العربي والعالم الإسلامي والعالم جميعه، التي تمنع المرأة من أن يتم اختيارها في هيئة التحكيم، وتمنع غير المسلمين من أن يتم اختيارهم كمحكمين، الأمر الذي يعد تمييزاً على أساس ديني آخذين في الاعتبار تنامي تدفق الاستثمارات الأجنبية على المملكة والتزامات المملكة عند الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، خصوصا أن جميع أحكام المحكمين مقيدة بعدم تعارضها مع النظام العام في أي بلد، وفقا للاتفاقيات والمعاهدات الدولية. كما يؤمل أن تعمل هذه الجهات، وفي مقدمتها وزارة التجارة والصناعة والهيئة العامة للاستثمار والغرف التجارية والصناعية، على إيجاد الأدوات الممكنة لتوفير البيئة المناسبة ومتطلبات تطبيق هذا النظام ومن بينها الإسراع بإنشاء مركز أو مراكز للتحكيم على غرار الدول الأخرى.