في صالة كبار الشخصيات في جدة التي حرص مضيفي على تمريري منها، جلست أنتظر الطائرة، ومع مرور الوقت بدأت أسمع صوت سيدة كبيرة من الجنوب الغربي في السعودية تلقي أمثالاً وحكايات شعبية مغرية لمن هي مثلي. عرفت في ما بعد أنها من موظفات الخدمة في الصالة. سمعتها تلوم زميلتها لماذا تتركها وتذهب وهي تعرف أنها تحتاج إليها لتوصلها في طريقها إلى المنزل، لكن الزميلة تعتذر، لأنها مضطرة إلى الذهاب أبكر قليلاً لزيارة أختها. تدور موظفة الاستقبال بكؤوس الشاي والترحيب بلهجتها الودودة، ثم تجلب لي شاياً وتجلس بجانبي لأن زميلاتها قد ذهبن، وقد شارفت نوبتها هي على الانتهاء. كانت الساعة قد قاربت العاشرة مساء. فرحت بقربها قلت لنفسي لعلي أسمع مثلاً شعبياً من قريتها أو حكاية طريفة كتلك التي كانت تحدث بها زميلاتها قبل قليل، لكنها حدثتني عن زميلتها التي تركتها وخرجت ولم تحملها معها. سألتها: «ألا يؤمن لكم العمل وسيلة نقل؟» قالت: «لا». أننا نعمل بعقود مع الشركة، وهي لا تؤمن نقلاً، ثم تنهدت وقالت: «ليس هناك سوى الليموزين». ثم أخذت وكأنها تحدث نفسها تقول إنها مجرد ألفي ريال كل راتبها ومنه تدفع مواصلاتها وإيجار مسكنها وكهرباءه وكسوتها والطعام. ثم قالت إن زوجها مات منذ عامين وإن ابنها الذي تخرج من البحرية لحق بوالده بعد تسعة أشهر فقط إثر إصابته بحمى شوكية، وبقيت هي وخمس بنات. قالتها وهي تفتح أصابعها الخمسة في وجهي، خمس بنات. ثلاث منهن مطلقات مع أطفالهن، ثلاث يعملن في وظائف بسيطة والاثنتان الباقيتان يعملن مع الطقاقات عملاً غير مستقر، قالتها ثم رفعت كفها وأخذت تدق عليها مثل طبل. لقد حظيت بحكاية. لكنها للأسف ليست حكاية طريفة. هذه العاملة وبناتها الخمس لا يشبهن النساء اللاتي يستهدفهن المشروع التغريبي لإخراجهن للعمل وتدمير أخلاق المجتمع، فأوصافهن لا تتطابق مع أوصاف النساء في خطب الوعاظ والمرجفين باسم الدين فهم لا يعرفون سوى النساء الفاتنات المعطرات المغويات، بينما هؤلاء النساء لا يعرف وجوههن سوى البؤس والحزن، أرامل ومطلقات، يجعن ويتعثرن في وسائل النقل ويلجأن لعمل مقطوع مع الطقاقات كي يقين أنفسهن شر المنزلقات، فزكاة المسلمين لا تصلهن ولا المشروع التغريبي ينقذهن بوظيفة كاشيرة لأنها حرام. هذه السيدة وبناتها الخمس هن شريحة كبيرة في المجتمع، فوزارة العمل تعلن وجود مليون امرأة يفتشن عن عمل بينهن373 ألف امرأة حاملة للماجستير وللبكالوريوس، لأن لهن حاجات كالمسكن والنقل والطعام والكسوة. وأزيدكم من الشعر بيتاً: إن الرقم يزيد على هذا بكثير، لأن الإحصاءات الرسمية عادة هي أقل مما يعبر عنه الواقع، وليس السبب غالباً محاولة إخفاء الأرقام بقدر ما هو عدم قدرة الجهات الرسمية على الوصول إلى الرقم الحقيقي.