قبل أيام أعلن نادي دبيّ للصحافة فوزَ الدكتورة بدرية البشر بجائزة الصحافة العربية لأفضل عمود صحفي. وحين تفوز بدرية بهذه الجائزة، فتلك شهادة على أن هذه الأرض قادرة على إنجاب المميّزين في كل مجال. وهو تكريم للكلمة الهادفة التي تساهم في الارتقاء بوعي القارئ، وانتصار لإيقاع الصوت الجميل على كل ما هو نشاز، وحافز للأقلام المضيئة على المضي في درب التنوير. صحيح أن تأثير الخطاب التنويري في المجتمع العربي محدود، وصحيح، أيضا، أنه مجتمع يميل إلى ما ينسجم مع قناعاته، ويتناغم مع ما يخاطب عواطفه، ويرجِّح كفَّةَ المتداول على المختلف، والثابتَ على المتغيّر، وصوتَ العاطفة على صوت العقل. لكنَّ قطرةَ ماءٍ مثابرةً تستطيع أن تنحت الصخر، وتصنع أكثر من ربيع. لم أطلع على حيثيات منح الجائزة، لكني أعرف أن بدرية البشر تكتب عمودها الصحافي بأسلوب هادئ ومؤثّر في الوقت نفسه. وأعرف كذلك أنها مُقْنِعة لمن يقرأ بتجرّد، أي بدون نوايا مبيَّته، أو أحكام مسبقة. ولمن لا يمارس القراءة الناعسة، حسب تعبير الشاعر بابلو نيرودا. وأعرف أنها تتناول قضايا اجتماعيةً وثقافيةً شائكة تتطلب جرأة وحكمة في الوقت نفسه. لذلك كله، أستطيع أن أقول: إن الجائزة قد أعطيت لمن يستحقها. بدرية البشر تكتب عمودها الصحافي بأسلوب هادئ ومؤثّر في الوقت نفسه. وأعرف كذلك أنها مُقْنِعة لمن يقرأ بتجرّد، أي بدون نوايا مبيَّته، أو أحكام مسبقة. ولمن لا يمارس القراءة الناعسة، حسب تعبير الشاعر بابلو نيرودا. وأعرف أنها تتناول قضايا اجتماعيةً وثقافيةً شائكة تتطلّب جرأة وحكمة في الوقت نفسه استطاعت بدرية البشر، كذلك، أن تنأى بنفسها عن الحذلقة المبالغ فيها والمتصلة بالنِّسْوية العربية، النزعة التي تحولت على أيدي بعضهن إلى كتابات شبيهة بعويل النادبات. وهي حذلقة لا تميّز بين التكافؤ في العقل وحرية الإرادة، وتلك الاختلافات البيولوجية التي لا تمسّ جوهر الإنسان. ذلك أن الإنجازات الثقافية والعلمية التي حققتها المرأة، بعد أن أتيحت لها فرص المشاركة الواسعة، لا تقلّ عن إنجازات نظرائها من الرجال. صاحبة أفضل عمود صحافي، وقبل أن تنضم إلى كتّاب وكاتبات صحيفة (الحياة) مرَّت، ذات عام، من هنا. وأعني ب (هنا) جريدة «اليوم» في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وكنتُ، آنذاك، أعمل مع الأصدقاء في القسم الثقافي على تحرير صفحات الثقافة، وأحاول جاهدا ملء بياض تلك الصفحات بالنصوص الإبداعية، حصلتُ من بدرية البشر على قصة قصيرة عنوانها (الفزَّاعة) لنشرها في (اليوم الثقافي). ربما كانت بدرية، آنذاك، في سنتها الجامعية الثانية. لستُ واثقا من ذلك، لكن المؤكد أنها كانت تخطو خطواتها الأولى على طريق الكتابة الإبداعية. كان نص (الفزَّاعة) يعبّر عن حالة خوفٍ من شيء لا وجود له. كخوف عصفورٍ جائع من قطعةِ قماشٍ معلَّقةٍ في مزرعةٍ مليئةٍ بالثمار. قصة من بواكير أعمالها الأدبية، لكن دلالاتها تشير إلى عمق وصفاء الرؤية، كما تؤكد مقولةَ: إنَّ المبدعَ لا يُصنع وإنما يُوجد بالفعل. في التسعينيات، وفي جريدة «اليوم» أيضا، كان للكاتبة بدرية البشر زاوية أسبوعية عنوانها (نصف الضجيج). وهو عنوان أدهشتني دلالته. ففي ذلك العنوان إشارة ذكية إلى أننا لا نقول إلا ما يسمح به «مقتضى الحال»، فما كل ما يعرف يقال. أوحى إليّ عنوان الزاوية بقصيدة حملتْ العنوان نفسه. لكن يبدو أن المساحة المتاحة للتعبير قد اتسعت في الألفية الثالثة لأكثر من (نصف الضجيج)، ولم تدع بدرية البشر الفرصة تفلت من يديها دون أن تتخطّى تلك المرحلة، وأن «تصنع» الضجيج كاملا!