في سياق المنافسة مع الرؤية الإيمانية للوجود، التي تجعل من الله مركزاً لها، تدّعي أيديولوجيا التقدم قلْب الرؤية الوضعية للوجود، التي تتخذ من الإنسان مركزاً لها، والقدرة على حفز كل ما لدى الإنسان من قوى خلاقة، وجدانية وأخلاقية وروحية، على منوال تلك التي تحفزها الأديان، والتى تتصور بدورها أن العودة إلى الحضن الأبدي ل «الله» في عالم الغيب هي غاية التاريخ البشري. غير أن التقدم كرؤية إنسانية للتاريخ لا يستطيع أن ينهض بمهمته تلك بديلاً عن الدين إلا إذا كان هو نفسه شاملاً كلَّ جوانب النشاط البشرى: الفكري، والأخلاقي، والسياسي، والمعرفي، وغيرها. فهذا الشمول وحده يستطيع أن يلهم دافعية «أرضية» أو «دنيوية» تضفي المعنى على حياة البشر، وترسم معالم مغامرتهم الكبرى داخل هذا العالم. ومعنى ذلك أن التقدم، كي يصلح بديلاً للدين في إضفاء معنى على الوجود الإنساني، سيكون مضطراً، هو نفسه، إلى التحول إلى ديانة/ أسطورة جديدة كبيرة تتفرع عنها معتقدات شتى. كان ماركس يرى أنه ليس ثمة «روح دينية مستقلة»، وأن الدين هو «تنهدات خليقة منهكة، وقلب عالم لا قلب له، وكذلك روح عصر لا روح له» ما يعني أنه ليس إلا «أفيون الشعب». مؤكداً أن الدين هو من خلق القوى الإنتاجية، وأن العالم الديني إن هو إلا إنعكاس للعالم الواقعي، وأن مصير الإنسان لديه لم يعد متصوَّراً إلا في علاقته بالطبيعة، وبغيره من الناس. ومعنى ذلك أن الدين صائر حتماً إلى الزوال، وأن على الإنسان أن يستعد لذلك الزوال بفلسفة أرضية محض تحقق له استقلاله المطلق في مواجهة أي قوة عليا مزعومة، بعيداً من أي مبدأ متعال أو حقيقة مطلقة في ما وراء هذا النشاط الإنساني، وكذلك عن أي وجود قدسي يسمو على الوجود الإنساني ذاته. غير أن ماركس، في سعيه لنفي الدين كعقيدة سماوية، أوجد عقائد أرضية شتى، فثمة عقيدة الموضوعية كجوهر للفكر، وعقيدة الطبيعة كجوهر للعلم، وعقيدة الديموقراطية جوهراً للسياسة، بل وعقيدة الإنسانية جوهراً للأخلاق، إذ من دون ثقة مفرطة بالجوهر الإنساني، وفي ظل غياب الله، لا يمكن أن يكون للفضيلة أو الرذيلة أي معني حقيقي. وهكذا يؤدي نفي المطلق الإلهي، إلى خلق مطلق إنساني جديد هو التاريخ، وديانة جديدة هي الاقتصاد، بل ونبي أو مخلص جديد هو «البروليتاريا» -الطبقة العاملة-، التي تصير لدى ماركس قادرة على تخليص الوجود البشري من جل مظاهر الظلم والتباين الطبقي، الناجمة عن غياب المساواة الحتمية بين البشر. وهنا كان ضرورياً أن يستحيل معتنقي الشيوعية إلى شعب الله المختار، المستحق للخلاص من دون الرأسماليين «الكفرة»، الذين لم يبذلوا في فهم وإدراك حركة التاريخ المادية/ الجدلية ذلك القدر الذي يؤهلهم للنجاة من ذلك المصير الرأسمالى البغيض! وهكذا، تستحيل رؤية ماركس للتاريخ أشبه برؤية لاهوتية جديدة مركزها إنساني، ومحيطها تاريخي، وقلبها اقتصادي، وجوهرها مادي. وأما محاولة أوغست كونت، كأبرز تجليات الوضعية الاجتماعية المتطرفة المتحلقة حول الداروينية أو المتأثرة بها، للقضاء على الروح الدينية، فكانت أكثر مباشرةً، وربما هزلية، إذ دعا إلى تجاوز الدين التقليدي القائم على عبادة الله بدعوى أنه يصوغ عقلية عتيقة بالية لم تعد لديها القدرة على مواكبة العلم والمعرفة الوضعية في الزمن الجديد الذي صار فيه العلم عملاقاً، والاستعاضة عنه بدين جديد حديث ينهض على «عبادة الإنسانية»، ولا تعدو طقوسه مجموعة مُثُل وأفكار وربما أساطير فشل فى استمالة الناس إليها، لأنها لم تكن في دقة مفاهيم العلم الحديث من ناحية، كما لم تتمتع بسمو الغايات والمثل السماوية من ناحية أخرى، أي أنها افتقدت الموضوعية والإلهام معاً، فلم تكن علماً ولا ديناً، ولم يعد لها ذكر بمجرد رحيل الفيلسوف، لتثبت من جديد فشل كل محاولة تستبدل بالوحي الديني الفائق للطبيعة، وحياً علمياً أو طبيعياً أو سياسياً مزعوماً، لأن كل ما ينبت في التاريخ أو ينمو، يظل قابلاً للتجاوز الدائم أو حتى الفناء الأبدي، فلا خلود إلا لما هو متجاوز أصلاً، ومتسام أبداً. غير أن الدرس التاريخى كان يحمل للإنسان المعاصر ما هو أكثر من عبث محاولة بناء دين إنساني، أو عقيدة تاريخية، إذ كشف له خطورة ذلك أيضاً، فإذا كانت مدارس ونزعات الحتم التاريخى قد فشلت في أن تصنع ديناً حديثاً يغذي أنماط التراحم والترابط التي طالما حفلت بها الأديان التقليدية، فإنها فى الوقت ذاته، وللأسف، نجحت في أن تثير ضروباً من التعصب أكثر حدة من تلك التي أثارتها الأديان، وذلك نظراً لتطورها في خدمة تصور علمي مباشر للواقع، وتأسيسها على قاعدة دول وطبقات وأحزاب ومصالح، وعلى امتلاكها لدعاوى وخيالات عن الطبيعة الإنسانية، بل وعن إمكانية التحكم فيها، وهو أمر لطالما ثبت زيفه. وقد أظهر القرن العشرون مدى سذاجة القرن التاسع عشر في الحديث عن تقدم حتمي للتاريح على نحو يجعله يسير بالضرورة في خط مستقيم، يصبح معه الحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر حتماً، حتى أن ما لاحظته تلك المدارس من نكوصات وتراجعات في بعض عصور التاريخ، تم تبريرها بكونها محض التواءات قصيرة أمكن تجاوزها من دون أن تخرج بالتاريخ عن المسار العام. وقد تبدت سذاجة مدارس الحتم التاريخي هذه ليس فقط لأن تلك الالتواءات التي نظر إليها كحدث عابر، احتلت في التاريخ عصوراً طويلة، وأرهقت أناس كثيرون بحيث يصعب إبقاؤها في حيز الحدث/ الالتواء العابر، ولكن أيضاً لأن كثيراً من هذه الالتواءات حدث بفعل هيمنة تلك اللغة «الحتمية» الساذجة التي حاولت استعجال حركة التاريخ بالقفز على مراحله، أو التحكم في اتجاهاته ففرضت عليه حدوداً قسرية من خارجه. التجارب تدل والخبرات تؤكد على النهاية المحبطة لكل فكر أو مشروع يدّعي السمو التاريخي، أو يتعالى على سنن الاجتماع البشري. وإجمالاً، يدلنا التاريخ على اتجاهات معقولة لدورة الأفكار تقول: كل فكر مثالي، مطلق، متعال، قابل للانحراف إلى نقيضه المتطرف والعنصري فى لحظة تحولية ما، وكلما زادت مثاليته زادت درجة تطرفه المحتمل، وهو بصدد محاولة السيطرة على المصير الإنساني كله وصبه فى قوالب حتمية محددة سلفاً. كما تؤكد على أنه كلما ازداد الفكر تطرفاً وتنامت نزعته الصدامية، كان فشله أكثر احتمالاً وتراجعه أكثر عمقاً، ولعل هذا هو السبب فى أن كل الأفكار المثالية والحركات السياسية الراديكالية، ظلت دائماً على هامش التاريخ، ربما يعلو وقع خطواتها أحياناً، ولكن كقوة معارضة للتاريخ الرسمي الذي تحكمت فى صناعته القوى والأفكار الأكثر اعتدالاً وعقلانية واستلهاماً لسنن الاجتماع البشري وتعاطياً مع تنوعه وتباينه بل وتناقضه أحياناً من دون محاولة للسيطرة عليه أو لَيِّ عنقه باتجاه حتميات من أي نوع، فلسفيةً كانت أو سياسية. وهنا كانت الصدامات السياسية والعسكرية، والنزعات الفاشية والنازية مجرد تعبير عن عنف الاحتكاك بين تلك الرؤى البسيطة أو الساذجة وبين الواقع المركب إلى درجة التعقيد. ولعل الشيوعية السوفياتية، لا تعدو محاولة لتجاوز مراحل التطور التاريخي، عبر تكثيف مخطط لإيقاعات تحركه، وهندسة اجتماعية دقيقة للمكونات الطبقية والمهنية التي تحمله، فكانت التجربة على ما رأينا من نتائج إيجابية سريعة ظاهرياً، وسلبية عميقة بنيوياً، ارتكست بالمجتمع إلى صيرورته العادية. وكذلك لم تكن النازية سوى رؤية اختزالية للتاريخ، حاولت اختزال التقدم في (البيولوجيا)، ثم النهوض بمحاولة تطهير العرق المختار مما علق به من أدران أعراق أخرى، كطريقة للتحكم في سير التاريخ، فكانت المآسي الإنسانية، والحروب الدامية من دون تحول حقيقي لا في العرق ولا في التاريخ.