تعرض المجتمع إلى تشويه حادٍّ أصاب قيمه الاجتماعية والأخلاقية في مقتل، وأشاع ثقافة الشك والريبة والوصولية، فاسحاً المجال لاختلالات خطيرة اخترقت البنية المتماسكة وأعادت تركيبها جينياً بشكل مؤلم ومخالف. عاملان أساسيان تضافرا في ظرف زمني مشترك لإيجاد هذه الحالة هما: الطفرة والصحوة؛ الأولى أثمرت نزعة الكسل والنفعية والأنانية، والأخرى زرعت ثقافة مؤلمة مدارها التوتر والتشكيك وانشقاق المجتمع حتى في أدق التفاصيل الاجتماعية. تمتع هذان العاملان بسطوة الحضور والفعل لفترة طويلة فتراجع مستوى التعليم من حيث القيمة ونشأت طبقات طفيلية تشابه الحالة المصرية في عهد الانفتاح. وفي إطار رغبة نبيلة لتجسير فجوة نقص الكفاءات صار التعليم بوابة لطمس صورة الأمية وإن لم ينزع بذرتها، مما أكسبها سطوة فريدة وهي المعتادة على السكينة والاختباء. وتبنّت الصحوة منهج الضجيج والشعبوية المفرطة، متسلحة بخطاب ساذج وإن كان عنيفاً يسعى إلى إعادة تشكيل المجتمع بهوية جديدة باعتبار نبتته الأصلية مجرد تشكيلات متعددة للجاهلية يجب القضاء عليها. في ظل هذين المسارين تهاوت القيم وضاعت أدوات الفعل الحقيقي، فنال الوهم مكان الحقيقة، وغدا الهامشيون والمدعون هم منارات المجتمع وحاملي كل المصابيح التي لا يغادرها إلا ضال أو ضائع. أعداد كثيرة تحمل الدكتوراة دون أدواتها فترتدي مشلح المعرفة مخفية فراغ المضمون، وكذلك حشد كبير للصوت الديني حتى ليجوز القول إن الأمية لم يعد ممكناً تصنيفها في شكلها الظاهري بل في حالتها الفيروسية. ما يحدث اليوم هو حصاد البارحة فترسخ أن الصوت الأعلى هو الأقوى والأصوب، حتى أن من يحاول التمرد على الهيمنة الصحوية يستخدم الدرجة ذاتها من الصوت وكأن الساحة مجرد حراج عشوائي. كثرت تسميات المشائخ والحقوقيين والناشطين والعارفين حتى لم يعد في المجتمع جاهل سوى الصامت عن علم ومعرفة.