محمد بن عبدالله المشوح - عكاظ السعودية لخص الأستاذ فهد المارك رحمه الله في كتابه «من شيم الملك عبد العزيز» ثلاثة أمور أجمع عليها المؤرخون في أحقية الزعامة : الأول: زعيم تأتي به الملمات وتصهره التجارب وتصقله نوائب الزمان وتزيده تقلبات الدهر ومحن الأيام والسنون علما ومعرفة. الثاني: زعيم ورث الزعامة والمجد عن آبائه. فوطد أسس ما ورثه وأشاد مجدا عاليا فوق مجد أسلافه. الثالث: زعيم منحه الله جميع صفات الزعامة ومختلف معاني القيادة. ولست هنا مادحا من غير معرفة أو تحقق أو قراءة وبحث ولن أسترسل في سرد المدائح والثناء على الملك عبدالعزيز الموحد وإن كان يستحق هذا كله. لكن سوف أتوقف عند صفة واحدة عظيمة أتعب وأنهك الرواة والكتبة والمؤرخون في ذكر أعداد من القصص والحكايات عنها وهي العفو. أو ما سماه المارك حين عقد فصلا «قل أن نجد من إذا انتصر على عدوه اللدود جعله وليا حميما». لكن ثمة سؤال مهم جدير بالطرح.. هو: كيف استطاع الملك عبدالعزيز أن يوحد هذه الجزيرة المترامية الأطراف ويجمع تلك الإمارات والدويلات والقبائل والأسر تحت مظلة واحدة قوية ؟ سؤال كبير وجدير أن يتم طرحه والنقاش حوله وتعليم أبنائنا وأجيالنا جوابه. لكن أعزو السبب وكذلك غيري إلى توفيق الله عز وجل لهذا الملك الذي علم الله صلاح نيته وقصده وحسن سريرته في إقامة دولة إسلامية عقيدتها التوحيد لله عز وجل. إضافة إلى ما حباه الله إياه من صفات نهل منها من سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم خصوصا تسامحه مع خصومه وأعدائه. إنه العفو تلك الخصلة النبيلة العظيمة التي ينتصر فيها الإنسان على الذات وحظوظ النفس. لقد أورد العديد من المؤرخين قصصا ليست من نسج الخيال أو الحكايا ولكنها مدللة وموثقة بأشخاصها وأعيانها ومنها قصة أوردها عبدالحميد الخطيب في كتابه الملك العادل حيث قال إن الأستاذ فؤاد الخطيب بعثه الملك علي بن الحسين شريف مكة إلى الملك عبدالعزيز ليتفاوض معه، عندما كان محاصرا لمدينة جدة، وكان فؤاد الخطيب وزيرا لخارجية الملك علي كما كان وزيرا لخارجية الملك حسين من قبل وقد جرى حوار طويل بين عبدالعزيز والخطيب ذكره صاحب كتاب الملك العادل بكامله، وإنما الذي تجدر الإشارة إليه هو أن وزير خارجية الهاشميين عاد من عبدالعزيز وهو مبهور بشخصيته الفذة وخذ العبارات التي أسر بها الخطيب لمن يثق بهم من رجال الملك علي كما أوردها صاحب كتاب الملك العادل بصفته واحدا من أعوان الهاشميين ومطلعا على أسرار رجالهم وأسرارهم معا. خذها بنصها الحرفي» «ولقد عاد الشيخ فؤاد إلى جدة، وهو مؤمن بعظمة ابن سعود وسمو خلقه وصلابة رأيه، وأنه ليس ممن تنطلي عليه الترهات أو تخدعه المظاهر وشقائق الأقوال» . وكذلك العقيد صلاح الدين الصباغ الضابط العراقي، وقصة كرهه لعبدالعزيز وإعجابه به ومودته له يرويها الدكتور أمين رويحة الذي كان شاهد عيان على ذلك. لقد حضر العقيد الصباغ إلى الرياض، مع وفد يرأسه نوري السعيد، فقابل الملك عبدالعزيز في روضة التنهات ولكن العقيد بعد أن قابل الملك وسمع حديثه تغير بغضه حبا وولاء. لقد استطاع الملك عبدالعزيز بحسن خلقه وجميل عفوه أن يحول أولئك الخصوم إلى أصدقاء مقربين ويقيمهم على عدد من المناصب العليا ثقة بهم وإثباتا لمبدأ العفو الذي اختطه لنفسه. وما فؤاد الخطيب ومحمد الطويل وطاهر الدباغ وعبدالحميد الخطيب وعبدالرؤوف الصبان والشيخ محمد سرور الصبان وغيرهم فضلا عن بعض حكام نجد قبل توحيدها الذين نازعوه العداء سنين طويلة ثم انتهت بهم إلى علاقة وطيدة وقربى وصدق حدسه فيها. إن للعفو والتسامح أثرا على غالب النفوس التي تلين بهذا الخلق لذا لم يكن غريبا أن يكون لهذه الصفة مواضع وآيات تتلى في كتاب الله إلى يوم القيامة «خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين». يروى أن الملك عبدالعزيز حين دخل الرياض سنة 1319ه واجتمع به أهل الرياض وعلى رأسهم العلامة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف رحمه الله أوصى الملك عبدالعزيز بوصايا ثلاث أولاها العفو عند المقدرة وأن لا يلحق المنهزم وأن لا يتعرض لكبار السن والمرأة والطفل والمسافر والطير والحيوان وقطع الأشجار وإحراق المزارع. فأخذ بهذه الوصايا وكانت حتى حروبه غاية في التعامل الأخلاقي الرفيع يصفح عن خصومه ويعفو عن أعدائه فاستمال القلوب العنيدة واستطاع أن ينتصر على قلوب الناس ويتربع عليها. يقول صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز وزير الدفاع في إحدى كلماته وهو أعرف الناس بتاريخ والده: «ومن منهج الملك عبدالعزيز العفو عن الآخرين حتى مع أشد خصومه الذين أصبحوا من أخلص رجالاته بسبب إنسانيته وهدفه السامي الذي تجاوز حدوده الشخصية ليشمل الدولة ذات المبادئ الإسلامية ومصلحة المجتمع». ولقد سار أبناء الملك عبدالعزيز على هذه الخصلة الحميدة والصفة الأخلاقية الراقية فلم ينتصروا لذواتهم ولم يكن الغل والحقد صفة لهم بل كانوا يقابلون الإساءة بالإحسان. وتجلت تلك الصفة مع ملوك آل سعود جميعا ولم يكن الانتقام رغبة في نفوسهم بقدر ما كان العفو عند مقدرتهم يتجلى في جميع حياتهم وتعاملهم مع مواطنيهم.. إن ذلكم التعامل الذي هيمن على هذه الأسرة الحاكمة المباركة جعلها تأسر قلوب الناس في تعاملهم وصفحهم وعفوهم وتجاوزهم ونقاء قلوبهم مع قدرتهم على الجزاء والعقوبة.