أكبر دليل على أن قرار السماح للشباب بدخول المولات والمراكز التجارية لم يكن قرارا سريعا ولا عاما، لكنه جاء بناء على حزمة من الدراسات والإجراءات، يؤكد ذلك حالات العقوبة والتعامل الذي بات يمثل الطريقة الواضحة مع كل من يثبت بحقه القيام بأي عمل يتضمن مخالفة سلوكية أثناء وجوده في أي من المولات التجارية. على مدى أسبوعين طالعتنا مختلف وسائل الإعلام بأخبار عن محاكمة بعض من يتم القبض عليهم من مرتكبي المخالفات في المجمعات التجارية، وما يتبع ذلك من قبض وتحقيق ينتهي سريعا إلى المحكمة ليفصل فيه القضاء، بما يراه القاضي من عقوبة. هذا واقع جديد وإيجابي للغاية، فهو يشير إلى حضور النظام مكان الاجتهاد، وإلى حضور العقوبة مكان التهديد بها. فيما مضى، ترى ما الذي كان يمنع بعض المخالفين من ارتبكاب مخالفاتهم؟ فقط الخشية من أن يصادفه رجال الهيئة الذين يمرون لماما على بعض المراكز التجارية، ويثيرون كثيرا من انتباه المتسوقين بما يحدثونه من جلبة، وبخاصة من كان يفتقر منهم للهدوء واللباقة وحسن الظن، بل غالبا ما يكون تركيزهم على النساء أكثر من الرجال، وهو وضع يفتقر لأي شكل تنظيمي واضح، لأنه يعتمد على المباغتة والمصادفة غالبا. كما أن حالات القبض التي كان يقوم بها بعض رجال الهيئة ظلت تفتقر في بعضها إلى كثير من التؤدة وتصل إلى حد تراشق لفظي أحيانا، وتوجد حادثة يتجمع حولها الناس وتشتغل كاميرات الهواتف لترصد محاولة إركاب شاب إلى سيارة الهيئة، ثم يبدأ تأليف القصص الاجتماعية حول تلك الحادثة. تتطور الأجهزة الرقابية بتطور المجتمع الذي تعمل فيه وترتفع درجة أدائها تبعا لارتفاع الوعي العام لدى الناس، وما حدث من إخفاقات سابقة في الهيئة أو في غيرها من الأجهزة الحكومية إنما يعود لبقاء تلك الأجهزة على نمط التعامل القديم في واقع جديد. فالمجتمع الذي كان يؤمن بالرقابة والأبوية المطلقة والإشراف على أخلاقه وسلوكه بالمطلق أصبح يرفض ذلك ويسأل عن مدى قانونيته، وبالتالي فالوزارات والمؤسسات الواعية هي التي تغير أدواتها بتغير الواقع. لم يكن إذن منع الشباب من دخول المولات التجارية حلا على الإطلاق، وفي ذات الوقت وكما هو حادث في كل العالم، لا يوجد مكان عام يتجمع فيه الناس دون أن يكون خاضعا لنظام واضح المعالم، وحين تدخل إلى أي مركز تجاري في العالم غالبا ما تجد لوحة في كل مدخل تشير إلى بعض الأنظمة والسلوكيات التي يجب الالتزام بها. لكن غياب ذلك الواقع أدى إلى وقوع بعض الأخطاء التي تجتهد الآن الرئاسة العامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإزالتها، ومن الواضح أنها تتجه إلى ذلك بكل قوة ووعي وإدراك لأهمية إعادة صياغة جهاز الهيئة وتخليصه من كل ما لحق به من انطباعات طيلة الفترات الماضية. وموقف معالي الرئيس بشأن ما كان يعرف بالحرس الشرعي أوضح دليل على ذلك التوجه وعلى جديته. لا تعول الجهات المسؤولة في كل المجتمعات على أخلاق الناس والتزامهم، فلا يمكن تغييب القوانين ثقة في آداب الناس وتربيتهم، بل ليس المطلوب من الناس أن تفكر بشكل مؤدب أو واع، لكن المطلوب أن تتصرف بشكل ملتزم، وهذا ما لا يضمنه إلا القانون. بدأنا إذاً نستوعب أهمية كل ذلك، وعلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دور مؤثر جدا في تعويد الشارع على أن السلطة التي توقفه وتحاسبه ليست سلطة رجل الهيئة ولكنها سلطة النظام والقانون الذي يطبقه رجل الهيئة، تماما كما يحدث مع رجال المرور. لكن ذلك القانون وتلك الإجراءات الجديدة والإيجابية ما زالت بحاجة إلى القانون الخاص بها، وهو قانون التحرش والسوكيات العامة، ومع أن هذا ليس من مسؤولية الهيئة تنظيميا، إلا أن بإمكانها الدفع قدما باتجاه استصدار مثل هذه التنظيمات وبخاصة على مستوى تحديد نوع المخالفة ونوع العقوبة. في الأسبوع الماضي حكمت المحكمة الجزئية بالرياض على شابين ممن ارتكبوا مخالفات في الأسواق والمجمعات التجارية، يقضي الحكم بأن تكون عقوبتهما بالعمل لمدة سبعة أيام في مغسلة للأموات. هذا الحكم لا يبدو غريبا فيما مضى لكنه الآن ورغم أنه يمثل اجتهادا حسنا من القاضي بل وسعيا منه لإيجاد عقوبة بديلة يكون فيها من العظة والعبرة أكثر مما فيها من إنزال العقوبة، لكنه في ذات الوقت يوحي بقلة البدائل المتوفرة للعقوبة بسبب غياب نظام واضح يمكن أن يستند إليه القاضي. كلنا ندرك أن تذكر الموت مما يعزز في قلب المؤمن فكرة المصير وأهمية الاستعداد لها لكن ذلك يأتي بتأثير أكبر حين لا يكون على شكل عقوبة. وبما أننا وصلنا إلى هذه المرحلة المتقدمة من التعامل مع المخالفين، فإننا جديرون الآن أن نحظى بقوانين حقيقية للتحرش والمخالفات السلوكية. ماذا لو أن الأحكام تأخذ طابعا مدنيا يسهم في وضع الشاب المخالف أمام مسؤولية ما، كالعمل في المستشفيات أو دور المسنين أو ذوي الاحتياجات الخاصة، أو العمل التطوعي في النظافة العامة أو غيرها من العقوبات التي تجعل الشباب في مواجهة أن هناك أكثر من تعريف للمتعة، ولديهم من القدرات ما لو تم توجيهه بالشكل الأنسب لاستطاعوا أن يصنعوا لذواتهم واقعا جديدا ومستقبلا أكثر ازدهارا.