يخرج أحدهم من بيته في الصباح الباكر في طريقه لمقر عمله؛ ليشتاط غضباً من تلك الحفرة العميقة التي تركها المقاول ورحل دون أن يردمها أو يضع حولها إشارات تحذيرية.. يتصل بالأمانة مبدياً تذمره من هذا التراخي، ومبلغاً عن تلك الحفرة، وما أن يغلق الهاتف حتى يصادف إشارة مرور معطلة محدثة ربكة هائلة في حركة السير، ويفتح هاتفه المحمول متصلاً بالمرور، طالباً سرعة إصلاحها كي لا تعطل حركة السير في وقت الذروة، وقبيل أن ينعطف إلى الشارع الذي يقع عليه مقر عمله، يصادفه قائد سيارة عاكس للطريق مستهتراً بالنظام وبحياة الناس ومحدثاً ربكة وفوضى وسط سيل السيارات الماضية في طريقها هذا.. يواجهه بسيارته محاولاً صده، حتى يستوقفه، ثم ينزل عليه وكأنه رجل مرور أو مخول لمحاسبة الناس.. يحتج على فعلة ذلك الرجل وينهره، ويزجره، ويتصل بالمرور طالباً منهم الحضور لتسجيل مخالفة بحق هذا المعاكس.. ترى من وكّل مثل هذا الرجل على «خلق الله» ليحاسب المقاول الذي ترك تلك الحفرة؟، ومن وكّله كي يستوقف عاكس الطريق؟.. هل هو رجل واعٍ ويتمتع بمسؤولية اجتماعية ووطنية عالية ليحافظ على مقدرات وطنه وسلامة مجتمعه؟، أم هو رجل فضولي يتعدى على الآخرين بحجة الإصلاح والاعتراض على الأمور السلبية؟.. من هم على شاكلة هذا الرجل أحقاً هم أناس منظمون في حياتهم، وجادون في تعاملاتهم، ويريدون أن يصلحوا الكون؟، وما مدى التأثير الإيجابي الذي قد يحدثونه في مجتمعهم؟. أسئلة كثيرة تطرحها تصرفات هؤلاء الرجال، ومدى ما يبذلونه من جهد في مبادراتهم تلك.. ورغم ما يواجهونه من تأييد شعبي منقطع النظير حين يستوقفون مرتكب مخالفة في الشارع العام، إلاّ أنهم قد يدفعون ثمن مبادرتهم تلك في نهاية المطاف بالتوقيف في مراكز الشرط حين يحتدم الصدام بينهم وبين المستهترين بحياة الناس وممتلكاتهم. من هم هؤلاء؟ هؤلاء الرجال الذين يحملون هم المجتمع والبلد، والشارع، والأمن والسلامة، ويدفعون من وقتهم وجهدهم الشيء الكثير، من وجهة النظر النفسية هل هم أشخاص مثاليون بالفعل، ومنظمون، ويريدون الوضع العام أن يكون كذلك؟، أم أشخاص لديهم ميول نفسية خاصة تدفعهم لهذا العمل؟. يقول «د. محمد بن مترك القحطاني» -عضو هيئة التدريس بقسم علم النفس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- إن هؤلاء من حيث المبدأ هم أناس طبيعيون وإيجابيون في المجتمع، وسلوكهم الذي يقومون به هو سلوك سوي، فإذا رأيتهم مثلاً يبادرون إلى التفاعل مع الجهات الخدمية، ويوصلون صوتهم وصوت المجتمع لتلك الجهات من أجل إصلاح خلل ما في الخدمات التي يفترض ألاّ يكون بها ذلك الخلل فاعلم أنهم يدعون إلى فضيلة، مشيراً إلى أن هذا السلوك يعني أنهم أناس يعتبرون فاعلين في المجتمع. مواطن يعترض سيارة عكست السير وأضاف أن من الناحية النفسية يوجد قسمان للشخصية، أحدهما -وهو ما يعنينا في هذا التحقيق- (الأنا الأعلى)، وهي مركز المثاليات والأخلاقيات والضمير والترتيب، وموجودة لدى كل إنسان، ويسلكون منحى معيناً من أجل إشباع تلك الأنا، ويواجهون في الغالب صدمات من المجتمع، مثل عدم التعاون من الآخرين؛ مما يحدث لديهم صراعاً نفسياً بين تطبيق ما يجب وما لا يجب، مؤكداً على أن هؤلاء يرون أن هذا الشيء يجب أن يحدث من أجل إشباع حاجات (الأنا الأعلى)، وحين لا يحدث هذا الأمر يصبح لديهم قلق وصراع قد يصل إلى درجة الغضب. ليس على حساب ذواتهم وأشار «د.القحطاني» إلى أن وجود هؤلاء الأشخاص المثاليون في المجتمع أمر جيد، ولكن يجب أن تكون توعيتهم للمجتمع أو مساعدتهم في نهضته أو إصلاحه ليست على حساب ذواتهم، كما أن عليهم أن يدعوا للإصلاح والتنظيم ولكن بهدوء، محذراً من انفصالهم عن الواقع أحياناً. التجاوز في تقديم النصيحة للمخالفين قد يترك مشاكل أكبر بين الطرفين وقال: «نجد أحدهم يتذمر من شوارعنا أو من طريقة تصميم أحيائنا مثلاً، وقد يكون معه حق في هذا الجانب، ولكن عليه أن يدرك الواقع، وهو أن هذا هو حالنا، وهذا هو الواقع الذي يجب أن نعيش فيه»، مؤكداً على أن حجب إشباع (الأنا الأعلى) عنهم سيولد لديهم كبتاً؛ مما يدفع الأفكار السلبية لديهم من حيز الشعور إلى حيز اللاّ شعور، حيث سيتحاشى الواحد منهم سماع الكلام الذي يغضبه، فيبدأ بكبت الأفكار السيئة. وأضاف أن تلك المشاعر إن بقيت في حيز الشعور ستضايقه وتغضبه فيحاول أن يتجاهلها، ولكن المشكلة إذا زاد في الكبت مرة ومرتين وثلاث إلى أربع سيأتي يوم ما وينفجر، ويؤثر ذلك سلبياً على نفسيته بشكل كبير، موضحاً أن العلاقة بين العقل والجسد تشير إلى أنه حين تتعب نفسية الشخص فإن جسمه يتعب، ويبدأ يعاني من أمراض العصر كالضغط والسكر والكلسترول والجلطات، مؤكداً على أن الأفضل لهؤلاء الأشخاص المثاليين أن يكونوا واقعيين ويصبرون، وأن يتفهموا واقع الحياة، داعياً الجهات الخدمية والمعنية إلى التفاعل بشكل مباشر وبأكبر قدر ممكن مع الأفراد والمواطنين المثاليين الذين ليست لديهم مصالح شخصية، وإنما يحملون هماً عاماً يأخذ أشكالاً وطنية واجتماعية واعية. د. يوسف الجبر لا ضرر ولا ضرار وقال «د. تركي محمد العطيان» -أستاذ علم النفس المشارك في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- إن هؤلاء الأشخاص الذي يحملون هماً عاماً ويعبرون عن هذا الهم بشكل يومي قبل أن نحكم عليهم دعنا نطرح سؤالاً: من يحكم على هؤلاء هل هم ايجابيون أم لا؟، وتابع: «نحن دائماً في علم النفس نتّبع قاعدة شرعية لا ضرر ولا ضرار، فإذا كان الشخص الذي في الشارع يتفقد أمورا معينة تمس شريحة من المجتمع الذي يعيش فيه، ويحاول أن يصل إلى درجة المثالية، فإنه في هذه الحالة مواطن فعّال ذو شخصية سوية وايجابية، بينما هناك شخص أناني لا ينظر إلاّ لذاته ما دام الأمر محسوما بالنسبة له فلا يعنيه الأمر السلبي، ويتركه وكأنه لا يراه»، مؤكداً على أن الشخصية السوية لها معايير وسمات وصفات تكون متوفرة في ذلك الإنسان المثالي. وأضاف يكون هناك أحياناً مثالية زائدة ومثالية سوية، فمثلاً لو رأى شخص حادث وأبلغ عنه فهذا أمر جيد، أما أن يقف ويعطل الحركة وينظم المرور بطريقة قد تكون خاطئة، ويحرك المصابين ويتدخل في عمل الغير فهذه مثالية زائدة وهي أقرب لأن تكون مرضية، وكذلك الشخص الذي قد يتأزم وينتقد المجتمع أكثر، مما ينبغي وبالتالي ينقلب الأمر من كونه شخصا مثاليا إلى شخص آخر محتقن، وقد ينتهي به الأمر في المصحات النفسية، مشيراً إلى أن الشخص المتزن الذي يساهم في حل قضايا مجتمعه اليومية في الشارع بشكل حضاري فإن عمله هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا هو الأمر الحميد. وأشار إلى أن هؤلاء في تصرفاتهم الإيجابية هم أشخاص مثاليون غالباً، ويحثون على أمور ايجابية وحميدة، ويبحثون عن وضع صحي سليم، وينبذون الخطأ وهذه صفات جيدة في الإنسان. د. تركي العطيان الموقف النظامي ويرى «د.يوسف بن عبداللطيف الجبر» -المحامي والخبير القضائي- أن هؤلاء الرجال الذين يحتجون على السلوكيات السيئة في الشارع العام كمعاكسة السير أو التحرش بالنساء أو الأطفال وخلافه، هم أناس ينهون عن المنكر، وهذه فريضة دينية، ويتمتعون بواجب المواطنة الواعية، من خلال التعاون مع رجال الأمن في دعم السيطرة الأمنية وبسط العدالة والنظام. وقال:»حين يصل الأمر إلى استخدام القوة لتغيير ذلك السلوك السيئ..هنا يصبح هذا الرجل الواعي والايجابي مخالفاً للنظام، ولو سُمح لكل من يريد أن يصلح الأمور بالقوة لأصبحت هناك فوضى كبيرة؛ لأن الناس يتفاوت وعيهم وتفكيرهم، وتتباين رؤاهم حول ما هو خطأ وما هو صواب في بعض الأمور؛ لذلك يمنع النظام مثل هذه التصرفات». وأضاف: «في الغالب هؤلاء الرجال الذين يرفضون السلوك السيئ في الشارع العام ويعترضون عليه هم أناس واعون ومتحضرون، والدليل على ذلك رفضهم لسلوكيات سيئة قد تعرّض حياة الناس في الطريق العام للخطر كمعاكسة السير مثلاً، أو قطع إشارة المرور، وهم يدخلون في الغالب في مشادات مع المخالفين قد تبدأ باعتراض على ذلك السلوك، ومحاولة ثني المخالف عنه، ولكن قد تتطور الأمور وتنتهي إلى نتيجة سلبية من قبل صاحب السلوك السيئ، مما قد يعرض أولئك الرجال للخطر والاعتداء، ويتحول الرافضون للسلوك السيئ إلى موقع الدفاع عن النفس». د. محمد القحطاني وأشار إلى أن النظام سينظر إليهم على أنهم اعترضوا طريق المخالف وأصبحت العملية جنائية، مشدداً على أنه في النظام المحلي لا زالت مثل هذه الأمور تلفها ضبابية وغموض قانوني، حيث لا توجد مواد تعالج مثل هذه الحالات. غموض التطبيق وقال «د. الجبر» إنه من الإنصاف إذا ثبت حسن نية الإنسان الذي اعترض المخالف، وكان هدفه منع سلوك خطير يخالف الأنظمة والقوانين ويعرض حياة الناس للخطر؛ ففي هذه الحالة يُفترض أن يكون هناك صرف نظر عن الدعاوى ضده، أو تخفيف الحكم عنه؛ رجوعاً إلى سمو الهدف والغاية من قبل هذا الرجل الذي كانت نيته حسنة، وكان هدفه ضبط النظام وحماية الأرواح. وأضاف أن لكل جنحة ركنين مادياً ومعنوياً، والمعنوي يتعلق بالقصد العمد العدوان بارتكاب الجريمة، فإذا كان الشخص عندما حدثت المشكلة لا يقصد الإضرار بغيره، ولا ينوي الاعتداء، وكان هدفه مصلحة عامة، فهو من الناحية القانونية في كثير من دول العالم يعتبر ما قام به متفهماً وداخلاً في دائرة الاستثناء والتقبل، بل يمكن أن يوصف بأنه عمل مشروع، وواعٍ، وحضاري، وقد يكافأ على ذلك. وأشار إلى أنه في الشأن المحلي نجد أن القانون أغفل التعرض لمثل هذا الموضوع، ولم يتطرق إليه، ويكتنفه غموض يقود إلى اجتهادات متباينة، مؤكداً على أنه لا يوجد في الأنظمة المحلية استثناء لمثل هذه الحالات والتخفيف عن معاقبة من دخل في المشكلة الجنائية بغرض سامٍ في بدايته. حسن النية ودعا «د.الجبر» القضاة ألا يغفلوا حسن النوايا الكامنة في نفوس هؤلاء الذين يدافعون عن المصلحة العامة، ويتبنون عملية التأسيس للوعي وتطبيق النظام. وقال:»إذا أردنا أن نحمي مجتمعنا وأن نصل إلى مرحلة تشكيل الوعي العام الحضاري، فيجب حماية الناس الذين يسعون إلى رفض إشاعة الفوضى، ويدعون إلى ضبط النظام، وحماية المجتمع والأفراد»، مطالباً أن يحمي النظام أصحاب المبادرات الإيجابية، ويفرق بينهم وبين من يريدون ابتداءً إشاعة الفوضى والتعدي على حرمة الشارع العام والممتلكات العامة والخاصة، والعبث بمقدرات الوطن. نهاية مأساوية أحياناً ولم يستعبد «د. الجبر» أن تنتهي اجتهادات بعض الرجال الإيجابيين بهم إلى دخولهم السجون؛ جراء دخولهم في نزاعات مع أشخاص مستهترين وسلبيين، وعدم قدرتهم على إثبات حسن نواياهم وسلامة مقصدهم. وقال: «صحيح أن الفرد غير مخول بالمبادرة الشخصية في اعتراض مخالف في الشارع العام.. لكن حين يلقي به اهتمامه وإحساسه الوطني أو الاجتماعي والحماس برفض سلوك سيئ في مراكز الشرط، فأتمنى أن يراعى سلامة قصده ووعيه وحرصه على وطنه ومجتمعه».