د. حسن بن فهد الهويمل - الجزيرة السعودية لمَّا أزل أتلقى المهاتفة تلو المهاتفة، من محبين متحمسين غيورين، يناشدونني الدخول على شتيت المواقع، ومشاهدة بعض الوثائق بالصوت والصورة أو بالكلمة، عن تجاوزات أخلاقية أو عقدية أو سياسية أو ما شئت من تلك الهنات واللمم والموبقات التي يقترفها البعض من المسؤولين والمفكرين والكتاب وسائر المتنفذين. ومن المهاتفين من يستنصرني في بادئ الأمر، فإن لم أبادره، تحول إلى مستصرخ، وما أنا وسط طوفان الصراع الحضاري وافتراء الكذب إلا خائف أترقب، ولن أقول لأحد من هؤلاء المتذمرين ما قاله موسى عليه السلام: [إنك لغوي مبين] ولكنني أقول ما قاله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: [فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا]. وإذ لا أجد مبرراً لهذه الحساسية المفرطة، وردة الفعل الأعنف، وفي الوقت نفسه لا أتردد في استنكار أي مخالفة عندي فيها من الله برهان، فإن مواجهة الواقع يتطلب فقهه، إذ لا يكفى التسلح بفقه الأحكام: هذا حلال وهذا حرام، وحين يصيخ المحتسب لهذا اللغط، ولذلك الترويج المحموم للشائعات والمخالفات والخروقات، عبر المواقع والصحف والمجلات، مما يُشْمِتُ بنا الأعداء، يجتاحه اهتياج العامة، واندفاعات العقل الجمعي، ومن ثم يفقد توازنه، ولا يجد فرصة للتقدير والتدبير وتحرير المسائل. ومن فقد السكينة والحلم والأناة أساء من حيث يريد الإحسان. ومع أننا نقدر تلك الغيرة، ونحمد للمحتسب تمعر وجهه من أجل ربه وانتفاضته من أجل وطنه، إلا أننا لا نود لردة الفعل أن تكون منطوية على سيئة تفوق سيئة المبتدئ. لقد جاءت التقنية الدقيقة مغرية لكل متابع، والداخل في لججها لا يختلف عن ذلك الصعلوك المنحوس الذي قالت عنه أمه: [طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك] وحين سُئلت عنه، وقد تأبط سيفه، واستجاب للفتنة. قالت: [تأبط شراً وخرج] فسمي بذلك. والمتأبطون لتلك الأجهزة إن لم يحسنوا استخدامها، لا يختلفون عن ذلك الصعلوك الشقي. ونحن إذ نكون أبناء عصرنا، لا أبناء تاريخنا، فإن علينا أن نتخذ من الحلم والأناة والدراية والرواية وتصور الأشياء على حقيقتها قبل الحكم عليها رِدْءاً لتصرفنا، فما من سبيل للربط على القلوب، والتثبيت للأفئدة إلا بالاعتصام بحبل الله، ونبذ الفرقة، والإيجاف بالآليات والمناهج المناسبة في الوقت المناسب. ولما كانت تلك التقنيات الدقيقة وسائل مراوحة بين الخير والشر، كان بإمكاننا أن نجعلها مصادر خير، وموارد علم، ومراتع عقول، وأمداء تثقيف. لا حبائل سوء وحلبات صراع، نستدرج بها وإليها الغافلين، فنقضي على سمعتهم، وندمِّر كل أشيائهم. ومن جرفته الشائعات واحتنكته الاتهامات فإن عليه التثبت [يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينو] لأن تصديق الشائعات، وترويجها مخالفة صريحة لمقتضى الأمر الذي استهله الله بالنداء، وأعقبه بالأمر، وإذا سمع الممتثل لأمر الله نداء ربه، فواجبه إلقاء السمع وهو شهيد، واستيعاب الأمر وامتثاله، فنداء الله لأمْرٍ فيه خيرٌ يدل عبده عليه، أو لشر يحذره منه. وكم يمر بنا [حديث الإفك] وما خلفه من تصدع في وحدة الأمة الإسلامية، وإيذاء لبيت النبوة، وقذف لأم المؤمنين. فالتخلي عن التثبت وانعدام حسن الظن، أديا إلى تعرض ثلاثة من الصحابة لخطيئة رمي المحصنات، فهذا [حسان بن ثابت] و[حمنة بنت جحش] و[مسطح بن أثاثة] رضي الله عنهم، استفزهم رأس الفتنه، وزعيم النفاق، وحملهم على قبول الشائعة، وترويج قالة السوء عن أم المؤمنين. ولهذا طهَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحد القذف، وترك المنافقين الذين أعد الله لهم الدرك الأسفل من النار، ولما قال حسان رضى الله عنه في مدح الصديقة بنت الصديق: [حصانٌ رزانٌ ما تزنُّ بريبةٍ وتصبحُ غَرْثى من لحوم الغوافل] قالت في سرها، أو في علنها - لست أدرى -: [ولكنك لم تصبح أغرثا] أي جائعاً عافًّا عن أعراض المحصنات. تلك الحادثة لو وعيناها بأفئدتنا، ورعيناها ببصائرنا، لكانت درساً تربوياً، يمكن السمَّاعين للكذب من وأْدِ الشائعات في مهدها، وعدم نفاذها للآخرين بالترويج، ولو أن المتهافتين على المواقع تحروا الرشد، والتمسوا الفوائد، لما طفح كيل التغريدات المؤذية لله ولرسوله وللمؤمنين، إلا من رحم ربك، ولَمَا تنوعتْ مناحيها. ومن أراد أن يدير الرؤوس بكؤوس الرذيلة، ويخنق النفوس بالأنفاس النتنة، فليطرح اسما من الأسماء الهامة أو قضية من القضايا الحساسة، ثم لينظر تداعيات الهراء الفارغ من كل مكرمة، الطافح بكل رذيلة. لا أقول ذلك على إطلاقه، ولكن الرؤى يحكمها التغليب. ومعاذ الله أن أقترف الخطيئة بالحيلولة دون التعبير عن وجهات النظر، والبوح بنتائج الاجتهاد المعتبر، ولا دون التصريح بالمواقف من الأشياء والأناسي الذين يتحكمون بمصائر الخلق، وتعرية أي تقصير أو مخالفة. ولكن يجب على كل مقتدر أن يقوٌم المواقف، وأن يزن الأمور، وأن ينظر للعوائد، وأن يتقي الظلم والتعدي والافتراء. فالمستهدف في النهاية مسلم له أو عليه، ومن القواعد الأصولية: [المتهم بريء حتى تثبت إدانته] والحكم نافذ حتى ينقض بما هو أقوى منه، وكم من بريء في غياهب السجون، وكم من نزيه مدنس العرض بالشائعات، ولا أستبعد أن من الأبرياء من ابتلاه الله بهذه الفئات التي لا تتحرى الدقة، ولا تستبرئ لعرضها ولا لدينها. ولقد سئلت عائشة رضى الله عنها عن قوم ينالون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: لعل الله قد أعد لهم نزلاً في الجنة، لم يبلغوه بعملهم، فسلط الله عليهم من يؤذيهم، وينال من أعراضهم، ليكتب لهم الأجر، ويأخذ لهم من أعمال هؤلاء المتسلطين عليهم بالسب أو بإشاعة الأخبار الكاذبة. ولهذا فإنني لا أحبذ الحساسية المفرطة في المواقف ضد هذا الصنف المسلَّط: [وما يعلم جنود ربك إلا هو]، إذ ربما يكون في بعض المقول شيءٌ من الصحة، ومن ثم يكون هذا الصنف ممن يُهدي العيوب لذويها و[رحم الله من أهدى عيوبنا إلينا]. أو يكون من باب الابتلاء وتمحيص الذنوب. ومع كل استيائي وتذمري من تلك الظواهر المؤذية فإن هناك شطراً مما يقال له مشروعية القول، وواجب المستهدف: عالماً كان أو مسؤولاً ألاَّ تأخذه العزة بالإثم، فمراجعة النفس، والنظر إليها في مرايا الآخرين من حسن الخلق. وإذا كانت الكلمات أو التغريدات أو فلتات الألسن عبر أي وسيلة إعلامية تهز الثوابت، أو تدنس المقدس، أو تشكك في المسلمات فإن هناك أكثر من طريقة للتمعر والاحتساب، لا يكون من بينها المعاقبة بالمثل ولا التجريم ولا الاتهام ولا الاستعداء ولا إثارة الرأي العام. فكم من مجتهد خانه اجتهاده، وقصرت أخادعه، وضعفت وسائله عن مواجهة النوازل، فأساء من حيث يريد الإحسان، وكم من متأول أبعد النجعة، وكم من مفهوم على غير مراده. وهنا لا بد من خيار الاحتواء على المواجهة، والاستبانة على الإدانة، فلقد يخطئ المفكر أو العالم أو المسؤول خطأ لم يقصده، فإذا أوجف الآخر عليه بالخيل والرجل، زاد نفوره، واستفحل عناده، وأخذته العزة بالإثم، واستعان عليه الشيطان بالتحريش بين الأطراف، ومثل هذه المواقف المتشنجة والحساسيات المفرطة توسع هوة الخلاف، وتصدِّع تلاحم الوحدة الفكرية، وكم قيل: [لعل له عذر وأنت تلوم] وفوق هذا ما دخل اللين في شيء إلا زانه: [فبما رحمة من الله لنت لهم]. ولقد ندم كثير من المتصدين للمخالفات، حين جاءت النتائج عكس المتوقع. فهذا الملحد [عبدالله القصيمي] حين أصدر كتابه [هذه هي الأغلال] بدت فيه بوادر انحرافه، ولو أن علماء عصره احتووْه، وتلطفوا بالحديث معه، وحاولوا مقارعة الحجة بالحجة، وحيدوا الأشخاص، وفككوا القضايا، لكان بالإمكان التوصل إلى حل وسط، يبقي على عالم ومفكر، لا ينازع داخل إطار السلفية، ولكن المواجهة كانت عنيفة،، والاستنكار كان شديداً، وإصدار الأحكام الجائرة لم يتح له فرصة مراجعة النفس، ومن ثم أمعن في غيه، وأسرف على نفسه وعلى سلفيته، فكان ما كان، من احتواء المذاهب المادية له، وتجنيده لخدمتها، وتهيئة الأجواء الملائمة له، ودعمه بالمال، وتوفير كل الإمكانيات. فكان أن دُفع الشرُّ بما هو أشر منه، ومن قواعد الفقهاء [درء المفاسد مقدم على جلب المصالح]. إن التقنية الحديثة عرَّت الأشياء، وأصبح كل إنسان تحت المجهر، وتسابق الهجاؤون على رصد التجاوزات وافتراء الكذب، واستعداء الرأي العام. وعلى الكافة من مسؤولين وعلماء ومفكرين أن ينظروا إلى مواقع أقدامهم، وألا يقدموا على قول أو فعل إلا بعد الاستشارة والاستخارة، فالزمن أصبح بلُّوْرِياً، يكشف عن دخائل النفوس، وخطرات الأذهان. ثم إن علينا جميعاً أن نألف هذا الواقع، وأن نتعايش معه، وأن نتقبل قدرنا المأزوم بكل رحابة صدر، ففي ذلك تفويت للفرص التي يرقبها المرجفون، وما لم تبادر صفوة الصفوة إلى الأخذ على يد المخالف والمجازف بالحكمة والموعظة الحسنة والرفق واللين، فإن المشاكل ستنداح، والخطر سيعم ويطم، وعندئذ يسبق السيف العذل.