يدرك الجميع الأثر الواضح لأفلام "يوتيوب" السعودية في أسلوب الطرح والنقد لكثير من النقائص والعيوب في مجتمعنا، هذا كله لم يكن ليأخذ شكل الظاهرة إلا بسبب غياب صناعة السينما وغيبوبة المسرح المحلي وفقر الدراما التلفزيونية في مجتمعنا تتملكنا نزعة غريبة هي أننا نتعامى ونتغاضى عن البيّن والواضح الذي نراه لأننا لسنا صادقين مع أنفسنا. مقالي السابق "لماذا يسافر السعودي كثيراً" أغضب علي جمعا من معارفي وغير من أعرف بدعوى أنني أدعو للتبرج والسفور، مع أنني لا يمكن أن أدعو لذلك، ولم أتجاوز في المقالة سوى وصف الواقع الذي - كما أسلفت - يتعامى عنه البعض ويتغاضون مع أنهم يرونه ويلمسونه في الداخل والخارج، وهاأنذا - في هذا المقال – أوشك أن أفتح على نفسي نافذة أخرى من الغضب وسوء الفهم حتى مع إحسان النية، ذلك أنني لا أجد حساسية تجاه مفردة بعينها إذا كانت هذه المفردة مختلفة في حروفها متطابقة في مضمونها مع مفردة أخرى.. سأشرح قصدي في التالي: كلمة السينما مفردة ملغمة ومحملة بالكثير من المضامين والهواجس السلبية عند كثير من الناس، لكنها عندي مفردة عادية، لأنها مع اختلاف حروفها فهي تعني عندي ما تعنيه مفردة التلفزيون.. فالسينما هي التلفزيون.. فكلاهما شاشة تعرض ما يحقن فيها، وهي لا تفرض ما يعرض ولكن الرقيب هو الذي يتحكم فيما يعرض فيها، وأخص السينما هنا بقدرة الرقيب الذي صارت قدراته تفوق ما يمكن التحكم في بثه تلفزيونياً، خاصة بعد أن خرج الفضاء من سيطرة وسطوة القنوات التلفزيونية الحكومية، ويتغير المكان لتصبح صالة السينما مكاناً علنياً يشاهد بثه جمع من الناس على حين يضيق مكان التلفزيون حتى يكاد ينحصر في غرف النوم المغلقة، ويكون مشاهده في حل إلا من رقابة نفسه وضميره وما تربى عليه. ونحن في السعودية أمة كتابة ليس لها متنفس للتعبير أو نافذة للنقد إلا من خلال الكتابة.. ولهذا كان القلم وما زال هو السلاح الأول والأوحد – غالباً – الذي نشهره في مواجهة المآخذ والعيوب والنقائص الاجتماعية والاقتصادية والرياضية والسياسية، وليست المحاولات الدرامية المحلية لتشخيص الواقع ونقده تلفزيونياً أو مسرحياً أو حتى إذاعياً إلا نقطة يسيرة في حبر الكتابة والأعمدة الصحفية الذي دأبنا على ممارسته منذ نشأت الصحف في المملكة وحتى الآن، حيث يمثل الرأي والمقالة أولوية في تسويق كثير من الصحف المحلية، ومع الثورة الإلكترونية وما حققه الانترنت من نفوذ واسع صار ال"كي بورد" مناطاً للتعبير وصارت المدونات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي بسطت نفوذها وتأثيرها بسرعة فائقة وسيلة للفضفضة بكل مكنون وكل خفي، وصار سقف الحرية بلا سقف، مثلما أن قاع الإسفاف في التعبير والملافظ بلا ضابط، وصارت لغة النقاش والتعليق تفيض بأقذع السباب والشتائم والتخوين والتجهيل وتهم المؤامرة والممالأة ولم يعد للسباب حد ولا للأدب حارس. ومع ذلك كله فقد جاءت ثورة "اليوتيوب" لتكشف لنا حسنات ومزايا الاتكاء على الأعمال الدرامية كوسيلة للتعبير وأن تكون مساندة للكتابة أو الخطابة. ما يجعلني كما يبدو منحازاً للدراما كوسيلة تعبير هو ما صرنا نلمسه من وقع وصدى للأفلام التي يتم تحميلها على "اليوتيوب" وتستقطب مئات الآلاف من المشاهدين، ولك أن ترصد عدد وحجم متابعات قناة "لا يكثر" أو قناة "التاسعة الأربع" أو "على الطاير" أو حجم المشاهدة المرتفع الذي حققه فيلم مثل "مونوبولي" وغير ذلك من الأفلام والاجتهادات الدرامية الفردية التي صار يبدع في طرحها شباب لم يتعلم هذه الصناعة لكنه اكتسب مهاراته من كثرة المشاهدة ومن توظيف التقنيات الحديثة التي هم من مجايليها وعاشقيها، وقد أثبتت هذه القنوات وما يبث فيها رقيا في المادة المطروحة وترفعها عن السفاسف برغم غياب مقص الرقيب في "يوتيوب". الجميع صار يدرك الأثر والرقي الواضح لأفلام "يوتيوب" السعودية في أسلوب الطرح والنقد لكثير من النقائص والعيوب في مجتمعنا، هذا كله لم يكن ليأخذ شكل الظاهرة إلا بسبب غياب صناعة السينما وغيبوبة المسرح المحلي وفقر الدراما التلفزيونية. أعلم أن لدينا من الهموم والتطلعات ما هو أولى وأهم من السينما، ولست في وارد المعترض على هذا الرأي لكنني شرعت في خوض هذا المعترك بسبب الرهاب والفوبيا الذي يجعل مفردة معينة تخلق حالة من التحفز لدى من يسمعها. جرب – أخي الكريم – أن تدخل على أحد المجالس السعودية العامرة بالحضور المسترخي ثم اقذف جمرتك.. وألقِ حصاتك في ركود المجلس وقل: "سينما"! فقط، قل: "السينما يا إخوان" ثم اصمت.. وسترى أن الجالس على خرزته التاسعة والجاثي على عضده.. والمنعزل في جواله.. والمنفرد في هواجسه كل أولئك سيتحفزون ويعدلون جلساتهم ويتركون هواجسهم وينحون جوالاتهم ويعيرونك سمعهم وبصرهم وتركيزهم.. فقط قل: السينما، فإذا تحفزوا وجحظت عيونهم واحمرت وجوههم ونفرت عروقهم فما عليك إلا أن تقول: "هيه أمزح عليكم" حتى لا تخسر سمعتك.. واحترامك، وحتى لا يدخلونك في ميزان تقييمهم الذي لن يسعدك حتماً. فماذا لو قلنا إن السينما ليست إلا مجرد تلفزيون كبير ويخضع ما يبث فيها لمعيار الحلال والحرام.. المقبول والمرفوض، فما كان مخالفاً ومناوئاً للشرع والأعراف فإنه مرفوض، وما كان عكس ذلك فإنه مقبول، ومثل ما يعرض في شاشة السينما هو مثل ما يعرض في شاشة التلفزيون من حيث الحلة والحرمة، أما محذور الاختلاط فهو ما يشكل عقبة في إنشاء صالات السينما ويمكن تلافي هذا المحذور بنفس الضوابط المتخذة أصلاً والتي تتعامل بها الدولة في الفعاليات المماثلة من مسرحيات واحتفالات وطنية. المصابون برهاب السينما يستحقون الاطمئنان إلى أن السينما تكون عادة تحت رقابة المصنفات الفيلمية، وتكون مسؤوليتها واضحة تجاه أي تجاوز أو إخلال، كما أنهم يستحقون أن يعلموا أن بعض القنوات التلفزيونية في المنازل تعرض من الأفلام ما يندى له جبين المشاهد، ويستحقون أن يدركوا أن تهافت الأسر السعودية على صالات السينما في الجوار بمن فيهم بعض أفراد أسرهم لا يكفي أن يجعل الشر "برا وبعيد" بل الأجدر أن يكون الشر تحت السيطرة، وذلك أفضل من تركه بعيداً ثم شد الركاب والمطايا سفراً إليه. إنها – والله – مجرد رهبة كبرى من "المفردة" المتلبسة عند البعض بأسوأ الظنون. فقط ما عليك إذا أردت أن تحرك الراكد وتشد المسترخي وتوقظ الناعس سوى أن تدخل أي مجلس سعودي وتقذف جمرتك اللاهبة وكلمتك اللاذعة وقل: السينما.. ثم أصمت ليسهر "القوم" جراها ويختصموا.